ربيع النقيب
لم تعد الحروب في هذا العصر تُدار فقط من غرف العمليات العسكرية أَو من على متن حاملات الطائرات، بل انتقلت إلى فضاءٍ أوسع وأكثر خطورة: العقول.
لقد أدركت أمريكا وحلفاؤها أن كلفة الحروب المباشرة أصبحت باهظة سياسيًّا واقتصاديًّا وأخلاقيًّا؛ فكان لا بد من الانتقال إلى نموذجٍ جديد يقوم على إدارة الصراع عن بُعد، وتفكيك المجتمعات من الداخل بدل مواجهتها في الميدان.
في هذا التحول، لم تختفِ البارجة، لكنها لم تعد الأدَاة الأولى.
حلّت محلها المنصة الرقمية، وغرفة الأخبار، وشركات التواصل الاجتماعي، والمؤسّسات الاقتصادية، وأذرع “المنظمات الناعمة” التي تُقدَّم تحت عناوين براقة، بينما تؤدي وظيفة استخباراتية وثقافية خطيرة.
الحرب الحديثة لا تبدأ بالقصف، بل بالتشكيك.
لا تستهدف الجبهة، بل الروح المعنوية.
لا تسعى لإسقاط الدولة فورًا، بل لإرهاق المجتمع، وبث الإحباط، وتحويل الاختلاف الطبيعي إلى صراع داخلي، والوعي إلى فوضى، والموقف إلى تهمة.
لقد أصبحت وسائل الإعلام جزءًا من منظومة الحرب، لا ناقلًا للحدث.
تُصنَع الرواية قبل أن يقع الحدث، ويُجرَّم الحق، ويُمنَح الباطل غطاءً أخلاقيًّا وقانونيًّا.
وفي هذا السياق، تتحول "السوشيال ميديا" إلى ساحة معركة مفتوحة، يُعاد فيها تشكيل الوعي، وتوجيه الغضب، وصناعة الرموز، وتفريغ القضايا الكبرى من مضمونها.
الاقتصاد بدوره لم يعد مجالًا محايدًا، بل سلاحًا ضاغطًا؛ فالعقوبات، والحصار، وتجفيف الموارد، وإغراق الأسواق بالفوضى، كلها أدوات تهدف إلى كسر الإرادَة الشعبيّة، ودفع الشعوب إلى التسليم تحت وطأة المعيشة لا تحت وابل النيران.
والمفارقة الأخطر أن كَثيرًا من الأنظمة العربية لم تعد مُجَـرّد متفرج في هذه الحرب، بل تحوّلت إلى أدوات تنفيذ؛ تمارس الدور الذي لم يعد العدوّ بحاجة لأن يقوم به بنفسه: تطبيع سياسي، اختراق ثقافي، قمع وعي، وتجريم كُـلّ خطاب مقاوم تحت لافتات زائفة.
ورغم هذا الزخم الهائل من أدوات الهيمنة، سقط النموذج الأمريكي في اليمن.
فشلت الحرب العسكرية، وانكشفت الحرب الاقتصادية، وارتدّت الحرب الإعلامية على صُنّاعها.
والسبب لم يكن في توازن السلاح، بل في توازن الوعي؛ فحين يمتلك الشعب قضية واضحة، وبوصلة أخلاقية، وقيادة ترى المعركة كصراع وجود لا نزاع مصالح، تسقط أخطر مخطّطات التفكيك.
لقد أثبتت التجربة أن الوعي الشعبي بات معادلة ردع حقيقية؛ فالشعب الذي يفهم أدوات عدوه، لا يُخدع بخطابه، ولا يُستدرج إلى معاركه الداخلية، ولا يُرهَب بحملاته النفسية.
إن المعركة اليوم ليست بين جيوش فقط، بل بين مشاريع: مشروع يسعى للهيمنة عبر تفريغ الإنسان من قيمه وهُويته، ومشروع مقاوم يدرك أن الحفاظ على الوعي هو أول أشكال الانتصار.
ومن هنا، فإن تحصين الجبهة الداخلية، ورفع منسوب الوعي، وكشف أدوات الحرب الناعمة، لم تعد مهام ثقافية ثانوية، بل واجب وطني واستراتيجي في قلب المعركة.
فالعدوّ حين يعجز عن كسر السلاح، يستهدف العقل.. ومن يحصّن وعيه، يُفشل الحرب قبل أن تبدأ.

.png)





