رهيب التبعي
إذ تبرأ الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا.. مشهدٌ قرآنيٌّ يتجلى في واقع الأُمَّــة.
قال الله تعالى في محكم التنزيل: ﴿تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأسباب﴾ (سورة البقرة – الآية 166).
تصف هذه الآية الكريمة مشهدًا من مشاهد يوم القيامة حين يتبرأ القادة من أتباعهم، وتنكشف الحقائق، وتضيع الأسباب التي جمعتهم؛ غير أن هذا المشهد لا يبدو بعيدًا عن واقعنا اليوم؛ إذ تتكرّر صورته في غزة الجريحة، حَيثُ تتعرّى المواقف وتتساقط الأقنعة وتُفضَح الشعارات.
أين الذين كانوا يطالبون المقاومة الفلسطينية بنزع سلاحها "حقنًا للدماء"؟ وأين الذين أقسموا أن ترامب لن يخلف وعده؟ وأين الدول العربية والإسلامية التي رحّبت باتّفاقات السلام المزعومة؟ لقد رأينا بأمّ أعيننا نتائج تلك الوعود حين سقطت القنابل على غزة واحترقت بيوت المدنيين، ولم يتحَرّك أحد ممن زعموا أنهم ضامنون للسلام.
اتضح أن "الضمان" لم يكن إلا لتمرير المخطّط الإسرائيلي، وأن "السلام" كان ستارًا يخفي وراءه مشروعًا لتجريد المقاومة من قوتها وإضعافها حتى لا يبقى لها درع ولا سيف.
من يطالب أخاه بنزع سلاحه عليه أن يكون مستعدًا لحمايته، لكن الواقع أثبت أن الضغط على غزة لم يكن حرصًا على دمائها بل تمهيدًا لجعلها لقمة سائغة أمام العدوّ.
وحين جاءت ساعة الخطر لم يتحَرّك أحد لحمايتها، ولم نسمع سوى بيانات إدانة خافتة لا تُسمن ولا تغني من جوع.
إن سلاح غزة ليس شعارًا سياسيًّا، بل رمز للبقاء وكرامة الأُمَّــة، ودليل على أن في هذه الأُمَّــة من لا يزال يرفض الخضوع ويصر على الدفاع عن أرضه وحقه ولو تُرك وحيدًا.
تعود الإبادة كما كانت في غزة؛ فالجريمة تتكرّر والألم يستعيد صورته الأليمة، وما زال أهلُها يدفعون الثمن.
لم يكن هناك "وسطاء" بالمعنى الذي يُنقذ أَو يوقف نزيف الدم، بل كانوا أدوات ضغط على المقاومة وحلفاء على الكيان، وقد تعانقوا مع وفده عقب الإعلان عن الاتّفاق — وفقًا لشهادة ويتكوف — ليظهر الوجه الحقيقي لتلك الوساطات: ليس حاميًا ولا ضامنًا، بل أدَاة في مسرحٍ أُعدَّ للانقضاض على كرامة شعبٍ وأمنه.
هذه الحقائق لا تُمحى بتصريحاتٍ دبلوماسية أَو بيانات استنكارية تصدر متأخرة؛ التاريخ سيقيّم من تآمر ومن تردّد ومن باع القضية بثمنٍ واهٍ.
وها هي غزة اليوم تُقصف، وأهلها يُقتلون، وأطفالها يُشرّدون، فيما يسود صمت عربي وإسلامي مريب.
الذين وعدوا بالدعم تراجعوا، والذين ضمنوا اختفوا، والذين رحّبوا بالأوهام صاروا يبرّرون الصمت بالخوف من "التصعيد".
لكن التاريخ لن ينسى، وسيسجل أن هناك من تاجر بالقضية، ومن خانها، ومن صمت عنها.
وسيأتي يوم يتبرأ فيه الذين اتُّبِعوا من الذين اتَّبعوا كما قال الله تعالى.
لقد آن للأُمَّـة أن تفيق من غفلتها، وأن تدرك أن الكرامة لا تُستورد، وأن الأوطان لا تُحمى بالبيانات والمؤتمرات، بل بالمواقف الصادقة والإيمان الحقيقي بعدالة القضية.
إن الله لا يبدل قومًا حتى يبدلوا ما بأنفسهم، ومن أراد رضا الله فعليه أن يقف مع الحق مهما كلفه الأمر.
اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، وكن لأهل غزة ناصرًا ومؤيدًا، واجعل خذلان الخاذلين عبرة في الدنيا قبل الآخرة.




.jpg)


