{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
ممارسة الظلم بعد التمكين: خيانة لله وللأمة وللشهداء!
عندما يتحرك الإنسان باسم أنه مجاهدٌ عندما يتحرك الإنسان باسم أنه مجاهدٌ في سبيل الله ويسعى لإقامة الحق والعدل ويقف بوجه الظلم، ثم عند التمكين الإلهي، والذي أتى على أساس التحرك بهذه العناوين وبهذه المبادئ والقيم، وضحى الكثير بأنفسهم في سبيل الله من أجل ذلك، يستغل الإنسان موقعه في المسؤولية - إما كقائدٍ عسكري أو في أي موقع من مواقع المسؤولية - فيمارس الظلم من موقعه إمَّا الظلم للناس في أنفسهم: قتلاً، أو سجناً، أو تعذيباً، أو اضطهاداً؛ أو إذلالاً بالقول، بالكلام: عندما يطلق كلمات من موقع التجبر والاستكبار والإساءة والاحتقار، أو التهديد والوعيد بغير حق، أو نحو ذلك ... أو على ممتلكات الناس: أن يقتطع أرضاً لشخص، أو يأخذ حقاً على شخص، أو يبتز إنساناً؛ فهو يخون الله، يخون الأمة، يخون كل الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل الله من أجل إقامة الحق والعدل.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
المجتمع معنيٌ بالتصدي لكل أشكال الخيانة داخل المسيرة القرآنية
خيانةٌ في مسيرتنا القرآنية لهذه المسيرة المباركة من أي شخصٍ كان قريباً أو بعيداً، في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية: أن يستغل موقعه أو منصبه لكي يمارس الظلم، لكي يتجبر، ثم لا هو يستجيب للتذكير بآيات الله، مثل هذه النوعية لا يجوز السماح لها أبداً أن تواصل مشوارها الظالم وتفلّتها في ممارسة الطغيان والإجرام، ويجب التعاون من الجميع لمنع أي إنسان يتحول إلى طاغيةٍ مجرم ويخون المبادئ والقيم العظيمة، ثم لا يتذكر إذا ذُكِّر بآيات الله، لا يجوز أبداً السماح له بمواصلة هذا النوع من الخيانة والإجرام.
والمجتمع معنيٌ، الذين آمنوا معنيون أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن يمنعوا الإثم والعدوان، وأن يتصدوا لكل أشكال الخيانة، وأن يعملوا - إضافةً إلى المنهج التربوي والتذكير- إلى منع الخيانة، ومنع الخونة ... لا يصل الإنسان إلى مستوى الخيانة وإلى مستوى الإصرار على الخيانة وعدم القبول بالتذكير حتى بآيات الله إلَّا وقد تحول إلى إنسانٍ دنيءٍ منحطٍ مجرمٍ، فقد الخير والإيمان والزكاء في نفسه، امتلأ بالغرور والكبر والطمع والهوى، وفقد التقوى، لم يعد يتقي الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
إنذارٌ من السيد القائد لكل منتمي المسيرة القرآنية
أذكِّر كل الذين ينتمون إلى مسيرتنا القرآنية في أي موقعٍ ومنصبٍ كانوا، وفي أي مستوى كانت صلتنا بهم: أننا لن نقبل لهم ولن نرضى لهم أبداً بأن يستغلوا هذه المسيرة القرآنية وما فيها من التضحيات والجهود والشهداء والمسؤوليات الكبرى التي نهضت بها أمةٌ مؤمنةٌ مضحيةٌ مجاهدةٌ على رأسها صفوةٌ من عباد الله الأخيار من أولياء الله، لكي يتسلقوا ظهر هذه المسيرة وأكتاف هذه الأمة، ثم ليمارسوا الظلم، مثل هؤلاء الناس لن نرضى لهم بذلك أبداً؛ هذا إنذار تمليه علينا المسؤولية ويفرضه علينا الواجب.
نحن سنسعى بكل جهد إلى أن نحارب كل هذا المستوى من الخيانة، من الظلم، من الإجرام، من أي متسلطٍ أو مجرم، مستعينين بالله سبحانه وتعالى وساعين إلى الحفاظ على نقاء هذه المسيرة العظيمة التي قدَّمت الآلاف من الشهداء.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
يجب منع من يتسلق على الأكتاف ليمارس الظلم
يجب منع هذا النوع من الناس من ممارسة جرائمهم وظلمهم، والاستمرار في خيانتهم، هذا مما فيه حياة المجتمع المؤمن: أن يكون مجتمعاً حياً، لا يفتح المجال للذين يتسلَّقون على الأكتاف، والذين يستغلون التضحيات الجسيمة.
إذا كان الإنسان يريد أن ينحو هذا المنحى الإجرامي الطغياني الظالم فليتحرك كفرد بمفرده، لا يستند على ظهور وأكتاف أمة مؤمنة مضحية مجاهدة، لا يستند إلى ذلك الرصيد من الشهداء الذين قدَّموا أنفسهم وأرواحهم في سبيل الله، ليس من أجله ليتحول إلى قائد عسكري أو مسؤول في منصب معين فيمارس الظلم، ليس من أجل ذلك قدَّموا أرواحهم وحياتهم، وليس من أجل ذلك قدَّم الآخرون معهم المال والغالي والنفيس والتضحيات الكثيرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
خيانة مال الوقف من ظواهر الخيانة المنتشرة
من أشكال الخيانة والتي باتت في هذا الزمن من الظواهر المنتشرة إلى حدٍ كبير لدى الكثير من الناس هي: خيانة مال الوقف. الأوقاف منتشرة إلى حدٍ كبير، هناك الكثير من المزارع، الكثير من الأراضي التي أوقفت، المصالح التي أوقفت، إما كانت وقفاً للمساجد، أو كانت وقفاً للفقراء، تكون غلَّاتها لصالح الفقراء، أو وقفاً في أي وجهٍ من وجوه القربة إلى الله سبحانه وتعالى.
وللأسف الشديد مع التقصير في الماضي على مستوى التوعية الدينية من جانب، وعلى مستوى التقصير من الجهات الحكومية المسؤولة من جانبٍ آخر، بل في مراحل معينة يتحول الجميع مشتركون في هذه الخيانة: الجهات المسؤولة في الدولة فيما مضى، والقائمين على تلك الوقفيات، الذين هم شركاء في تلك الأوقاف، الكل يتعاونون أحياناً في خيانة الأوقاف، هذا يأخذ، وهذا يأخذ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
بخيانة مال الوقف تخون أربع خيانات
الأوقاف هي من القرب التي يتقرب بها الناس إلى الله سبحانه وتعالى، وعندما يخون الإنسان في مال الوقف، فهو يخون خيانات متعددة: هو خان الواقف الذي أوقف ذلك المال، تلك المزرعة، تلك الممتلكات، تلك المصالح التي أوقفها، ويخون الموقوف له، الذي إليه هذه المصلحة المعينة، أو الغلات المعينة تتجه إليه، مسجداً، أو فقراء، أو غير ذلك. وفي نفس الوقت هي خيانةٌ لله، وخيانةٌ للأمانة التي بيدك.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
عواقب الخيانة في مال الوقف
للأسف الشديد قد يغفل الكثير من الناس أنه عندما يُؤَكِّل أسرته مما يخون فيه مال الوقف، من حصة الوقف، فيأتي ليقتطع حصة الوقف بالكامل، أو ليقتطع نسبةً معينة، وقد يُؤَكِّل منه أسرته، وهو يُؤَكِّلهم الحرام.
ثم هو مع هذه الخيانة لا تقبل له صلاة، لا يقبل منه أي عملٍ صالح، يفسد إيمانه، يفسد صلته بالله سبحانه وتعالى، يؤثِّر على وضعه، ومع الاستمرار على أكل هذا المال الحرام من خلال هذه الخيانة الخطيرة يتراكم الوزر ويكبر ويكبر، البعض قد تصل النسبة التي أكلها من أموال الوقف في آخر حياته إلى مبلغٍ كبير، كافٍ لتخليده في جهنم والعياذ بالله، فهذا يدخل في أكل مال الحرام، وفي الخيانة.
ومن المهم للناس أن يحذروا من ذلك، أن يتخلَّصوا من ذلك؛ لأنه أحياناً مع قلة الضبط في هذا الجانب في كثيرٍ من المراحل الماضية، والبعض من الناس إذا لم يكن فوق رأسه عصا تسوقه إلى دفع الحق يتجرأ على الخيانة، لأن مثل هذا النوع من الخيانة له مصائب في الدنيا، عقوبات عاجلة في الدنيا، وله آثار سيئة في نفس الإنسان، وفي أعماله، وفي مسيرة حياته، ثم آثاره السيئة والسلبية في الآخرة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُم وَأَنتُم تَعلَمُونَ} [الأنفال: 27]
منع خيانة مال الوقف مسؤولية الدولة والمجتمع
نحن ننصح ونذكِّر ونحث كما نؤكِّد على أهمية أن يتعاون الجميع: الجهات المسؤولة في الدولة، وأيضاً المجتمع من جانبه، أن يتعاون الكل في سبيل دفع هذه الخيانة، منع هذه الخيانة، تصحيح هذه الوضعية، وإصلاح هذه المشكلة، وصولاً بعودة الناس إلى دفع حصص الوقف.
والجهات في الدولة كذلك معنية بتطوير آلياتها العملية، بتصحيح وضعها الإداري أكثر فأكثر، بالعمل على إيجاد آلية إدارية جديدة تساعد على استخلاص هذا الحق، والعناية بهذا الجانب بشكلٍ كبير؛ لأنه أيضاً جانبٌ مهم في الحقوق الشرعية، مثلما الزكاة وهي ركنٌ من أركان الإسلام، وشأنها أكبر وأعظم، والأوقاف أيضاً لها أهمية كبيرة، وخطورة الخيانة في هذا الجانب والمعصية في هذا الجانب كبيرة جدّاً على الناس في حياتهم، وفي واقعهم، على المجتمع بشكلٍ عام.
{وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ} [الأنفال: 30]
يذكِّر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة نبيه - صلوات الله عليه وعلى آله - ويبصِّرنا جميعاً نحن كأمةٍ مسلمة - الذين آمنوا - بهذه النعمة التي أنعم بها جل شأنه، وبهذه الرعاية، وهذا التأييد الإلهي العجيب، في مرحلة قد كانت لربما من أخطر المراحل على مستقبل الإسلام وعلى مسيرة الإسلام، فهي مرحلةٌ مكر فيها الذين كفروا برسول الله - صلوات الله عليه وعلى آله - وتآمروا عليه في مرحلةٍ كان لا يزال وضعه من حيث الأنصار والإمكانات والقوة وضعاً ضعيفاً جدّاً.
فهو مكرٌ في مرحلة حسَّاسة وصعبة وخطيرة جدّاً، ومكرٌ خطيرٌ لأنه يستهدف رسول الله بكل ما يمثله من أهمية ومن ضمانة لتبليغ هذه الرسالة ولإقامة هذا الدين، فكان هذا الخطر خطراً على الرسالة بكلها.
مكر هؤلاء الأعداء كان يدور حول دراسة ثلاثة خيارات لاستهداف النبي - صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله - بواحدٍ منها: {لِيُثبِتُوكَ}، يعني: التقييد والحبس، {أَو يَقتُلُوكَ}: القتل، {أَو يُخرِجُوكَ}: الإخراج من مكة. وتروي السِّير والتاريخ أنه استقر خيارهم على أن يقتلوا رسول الله، وخططوا لتنفيذ هذه العملية خطةً اشتهرت ونقلتها كتب السِّير والتاريخ: أن يجمعوا من كل قبيلةٍ أو بطنٍ من بطون قريش فارساً من أشدائها ومقاتلاً من أبطالها، ليجتمع الكل فينفذوا هذه العملية لاستهداف النبي صلوات الله عليه وعلى آله.
{وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
{وَيَمكُرُونَ}، قاموا بتجهيز هذه الخطة، {وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ}، عندما مكروا مكرهم هذا، ودبَّروا مؤامرتهم هذه، وجهَّزوا هذه الخطة، وسعوا لتنفيذها، فالله سبحانه وتعالى تدخَّل برعايته العجيبة في تلك المرحلة الصعبة والحسَّاسة والخطيرة جدّاً، ودبَّر لنبيه - صلوات الله عليه وعلى آله - الهجرة بحفظ ورعاية وحمايةٍ من الله، حتى أنَّ الله أنزل إليه جنوداً من ملائكته لحمايته، كما ذكر ذلك في سورة التوبة.
ومكَّنه من الهجرة، وهيَّأ له مرحلةً جديدة توفر فيها الأنصار الذين تحركوا لرفع راية الإسلام، واستكمل عملية الإبلاغ للرسالة.
{وَإِذ يَمكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثبِتُوكَ أَو يَقتُلُوكَ أَو يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]
هنا الله سبحانه وتعالى بهذا التذكير يطمئن نبيه - صلوات الله عليه وعلى آله - تجاه ما قد يجده من البعض من تخاذل وعدم استجابة، وتجاه أيضاً ما يجده من البعض من خيانة؛ وفي نفس الوقت يعزز الأمل ويرسخ الرجاء لدى النبي - صلوات الله عليه وعلى آله - ولدى المؤمنين الصادقين معه. لأن الله سبحانه الذي منَّ بتلك الرعاية في ذلك الظرف الحسَّاس، في تلك المرحلة العصيبة والخطيرة جدّاً، هو سيمنُّ برعايته وتأييده فيما بعد ذلك، في المراحل القادمة.
فهذا يطمئن ويعزز الأمل للنبي - صلوات الله عليه وعلى آله - وللذين آمنوا في عصره وما بعد عصره في كل زمن، وهو درسٌ لنا في هذا العصر: أنَّ هذه الرسالة الإلهية هي عنصر قوة، هي سبب خيرٍ ونصرٍ وعزٍ وفلاحٍ، هي صلةٌ مع الله لنيل تأييده، لنيل معونته، لنيل نصره، للحصول على رعايته؛ لأنها مدعومةٌ من الله سبحانه وتعالى؛ إذا سارت عليها الأمة، وتمسكت بها؛ كان الله معها، ومعية الله سببٌ للنصر والعز مهما كان مكر الأعداء، مهما كانت مؤامراتهم في خطورتها أو في دقتها أو في نوعها، فالله سبحانه وتعالى هو خير الماكرين.
{وَإِذَا تُتلَى عَلَيهِم آيَاتُنَا قَالُوا قَد سَمِعنَا لَو نَشَاءُ لَقُلنَا مِثلَ هَذَا} [الأنفال: 31]
كان موقفهم من القرآن الكريم كذلك موقفاً معادياً، فكانوا إذا تتلى عليهم آيات الله سبحانه وتعالى من القرآن الكريم لا يؤمنون بها، ولا يقبلون بها، ولا يتفاعلون معها، ولا يتأثرون بها، بل كانوا يواجهونها بهذا الكفران، بهذا الجحود، بهذه العقد: {قَالُوا قَد سَمِعنَا}، بدون تفاعل مع ما سمعوه من هذه الآيات المباركة، التي لو أنزلها الله على جبل لخشع ولتأثر، فيما يعبِّر عنه هذا من طغيان، من كفر، من جحود، من استكبار.
ثم قولهم: {لَو نَشَاءُ لَقُلنَا مِثلَ هَذَا} مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي، وليس ذلك بصحيحٍ أبداً، النبي - صلوات الله عليه وعلى آله - تحداهم فلم يأتوا ولا بمثل آيةٍ من آيات الله، كانوا عاجزين؛ إنما للمكابرة، وحسب المصطلح الإعلامي في هذا الزمن: للاستهلاك الإعلامي، والمناورة الإعلامية.
{إِن هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31]
ثم قولهم: {إِن هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}، يريدون [منه] أنَّ ما يقدِّمه القرآن الكريم من قصصٍ تاريخي ومن حقائق، ومن مفاهيم ومن عقائد أنه مجرد أسطورة، يعني: لا حقيقة له، ليس صحيحاً، كمثل ما كان عند الأولين من أساطير وقصص خيالية لا صحة لها. فهم كفروا بالرسول وكفروا بالقرآن، وواجهوا القرآن الكريم بمثل هذا النكران وبمثل هذا الرفض، حرب إعلامية كانوا يشنونها لمعارضة الإسلام ولمعارضة الرسالة الإلهية، حاربوا بكل الوسائل، ومكروا بكل الوسائل، وتحرَّكوا بكل الأساليب.
{وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]
هذا الموقف من جانبهم يوضِّح ما بلغوه من التعنت والاستكبار والجحود عندما وصلوا إلى هذه الدرجة، فهم يحاولون أن يُبدوا موقفاً نهائياً في جحودهم لهذه الرسالة ولهذا الدين إلى هذه الدرجة أنهم يقولون وكأنهم يتظاهرون بأنهم يدعون: {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الحَقَّ مِن عِندِكَ فَأَمطِر عَلَينَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، بدلاً من أن يقولوا: فاهدنا إلى هذا الحق، فاشرح صدورنا لتقبل هذا الحق، كانوا يقولون هكذا تعبيراً عن مدى تعنتهم، وتظاهراً بثقتهم بما هم عليه من الباطل، وأنَّ هذا ليس هو الحق. هذه الحالة من الطغيان والتعنت يصل إليها الإنسان حينما لا يقبل بالحق، يذكَّر بآيات الله فلا يقبل بالحق، يصل إلى هذه الحالة السلبية جدّاً، قد يتمنى الهلاك والعذاب ولا يقبل بالحق؛ لشدة تعنته وعناده.
وهذا التعنت والعناد نهايته جهنم، وهي التي سيقف الإنسان فيها بين استعار نيرانها وحرارتها، بين قيودها وأثقالها، خاضعاً خانعاً، ذليلاً مقهوراً، هي نتيجة هذا التكبر: {فَبِئسَ مَثوَى المُتَكَبِّرِينَ}، مع ما يمكن أن يأتي الإنسان في الدنيا، هؤلاء الذين تعنتوا هذا التعنت، الذين وقفوا هذا الموقف أذلهم الله وكسر شوكتهم في الدنيا، في معركة بدر نفسها، البعض منهم ممن كانوا في منتهى الطغيان والاستكبار والتعنت، قهرهم الله سبحانه وتعالى وقتلهم في غزوة بدر، البعض منهم فيما بعد ذلك، والبعض منهم دخلوا في الإسلام يوم الفتح طلقاء مرغمين أذلاء مستسلمين.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم وَأَنتَ فِيهِم} [الأنفال: 33]
تأخير العذاب عنهم بعد قولهم هذا {أَوِ ائتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ليس لأنهم ليسوا في مستوى أن يُعذبوا، أما هم فيما هم عليه فهم يستحقون العذاب؛ ولكن سنَّة الله سبحانه وتعالى أن يجعل مرحلةً معينة للتبيين وإقامة الحجة، فتلك المرحلة التي كان النبي - صلوات الله عليه وعلى آله - متواجداً فيما بينهم، كان يبين لهم وكان يقيم عليهم الحجة.
بعد استتمام الحجة، واكتمال إقامة الحجة، واكتمال التبيين، وإذن الله سبحانه وتعالى بالهجرة، يتغير الحال.
{وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُم وَهُم يَستَغفِرُونَ} [الأنفال: 33]
هنا يقدم الله سبحانه وتعالى طريقاً للنجاة من عذابه، هي الاستغفار، يعني: طلب المغفرة. طلب المغفرة عنوان واسع لا يقتصر فقط على قولنا ’’نستغفر الله‘‘ أو ’’أستغفر الله‘‘، بل أن نسعى لكل ما وعد الله بالمغفرة عليه.
لاحظوا مثلاً في الآية المباركة التي سبقت وهي قوله جل شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجعَل لَكُم فُرقَاناً وَيُكَفِّر عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِر لَكُم}، لاحظوا: هنا قدم المغفرة ضمن المكافآت والعطاءات التي يمنُّ الله بها بناءً على تقواه سبحانه وتعالى.
لاحظوا في الحديث مثلاً عن الإيمان والجهاد في سورة الصف عندما قال: {يَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَيُدخِلكُم جَنَّاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدنٍ} [الصف: 12].
لاحظوا أيضاً فيما تحدث به القرآن الكريم عن الصدقات وذكر في إخفائها وإيتائها الفقراء سبباً للمغفرة وتكفير السيئات، وهكذا يأتي في القرآن الكريم الإرشاد إلى الأعمال التي ينال بها الإنسان مغفرةً من الله سبحانه وتعالى.
ومع ذلك كله لا بدَّ من التوبة، لا بدَّ من الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى الرجوع العملي، رجوعاً عملياً، يعني: تعود للالتزام بتوجيهات الله، بطاعة الله، بتقبل توجيهات الله سبحانه وتعالى، والسير وفق هديه ومنهجه، وتستغفره، تطلب أيضاً منه المغفرة، وتأخذ بأسباب المغفرة.
ومن العجيب في القرآن الكريم أن بعض المواضع يقدم فيها أيضاً بالمناسبة: أنه عندما تحدث عن العذاب تحدث عمَّا يقي من العذاب، وعمَّا يدفع العذاب، ليرشد عباده برحمته إلى ما يقيهم من عذابه، لأن الحديث أتى عن العذاب فأتى الحديث عمَّا يدفع العذاب، وهذه من رحمة الله سبحانه وتعالى هذه من أبلغ مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى.