أصيل علي البجلي
تتجاوز شهادة القائد الجهادي الكبير، الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري، رئيس هيئة الأركان العامة، مُجَـرّد حادثة اغتيال عسكرية، لتستحيلَ إلى وثيقة عهد مكتوبة بالدم في زمن التذبذب والتخاذل.
لقد ارتقى الغماري ليتوّج مسيرة عطاء كان عمادها الأول والأخير ما سمَّاه السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي: "الإخلاص لله والتجرد من أية أهداف أَو حسابات شخصية".
وفي هذا التجرُّد، يكمن جوهرُ العظمة والخلود.
إنّ قيادة بهذا الوهج لا تُبنى على ركام الأماني، بل تُشيَّد على صخرة اليقين.
قال تعالى: "مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا" (الأحزاب: 23).7
لقد كان الشهيد الغماري هو القائد الذي ترجم هذا الصدق الإلهي إلى خطة عسكرية وموقف سيادي، فكانت حياته برهانًا على أن النصر الحقيقي يبدأ حين يطهّر القائد قلبه من غبار الدنيا.
في مقاربة منهجية، نجد أن القيادة المتجردة هي النقيض التام لما حذّر منه الإمام علي (عليه السلام) في وصاياه للقادة: "شَرُّ مَا فِي الْوُلَاةِ بَطَرٌ، وَأَشَرُّ مِنْهُ إقامة السُّنَنِ الْبَاطِلَةِ، وَأَشَرُّ مِنْ ذلِكَ عَمَلُ الْوَالِي بِهَا".
لم يعرف الغماري البطر، بل عرف الصبر الذي يسبق الفعل، والتحمّل الذي يعقب البذل.
هذا الصبر على المعاناة، كما أشار إليه السيد القائد، هو ما يُمكّن الإنسان من أداء المهام الكبرى التي تتكسر أمامها إرادَة المتهاونين.
لقد ارتوت الأرض بدمه الطاهر ضمن معركة الإسناد لغزة، ليعكس معنى الشهادة في أبلغ صورها، مذكِّرًا بما يُروَى عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "إنَّهَا لَتَثُورُ نَارٌ فِي قَلْبِ المُؤْمِنِ لا يُطْفِئُهَا إِلاَّ لِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى على الشَهَادَة".
ففي كُـلّ نقطة دم شهيد، نار ثائرة في وجه الظلم لا تخمد.
ويؤكّـد الإمام الباقر (عليه السلام) هذه القيمة العلوية بقوله: "مَا مِنْ قَطْرَةٍ أَحَبُّ إلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَطْرَةِ دَمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".7
إن استشهاد الغماري لا يمثل خسارة، بل هو تثبيت وتحويل: تثبيت لنهج المقاومة المتصاعد، وتحويل للموت إلى ميلاد متجدد للقيادة.
لقد علّمنا أن القوة ليست فقط في امتلاك الصاروخ، بل في الإرادَة المشتعلة التي لا تعرف المساومة.
فبينما يبيع السماسرة قضايا الأُمَّــة بثمن بخس، يبيع الغماري نفسه لله بثمن الجنة.
على الأجيال القادمة أن تعي أن هذا الإرث القيادي المتجرّد هو صمام الأمان الوحيد.
إنها دعوة للتحرّر من عبودية الحسابات الضيقة إلى فضاء الإخلاص الواسع.
فالقائد الذي يتجرد من ذاته، هو وحده القادر على أن يصنع نصرًا لا يحمل معه بذور الانكسار.