{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 2-4].
مسيرة الجهاد في سبيل الله هي مسيرة إيمانية، يجب أن تكون منطلقاتها إيمانية، إذا غاب الدافع الإيماني والمنطلق الإيماني، تحول العمل في سبيل الله إلى عمل روتيني، وعمل تحكمه أطماع وأهواء، فيمثل هذا إنحرافاً يترتب عليه سلبيات كثيرة في الأداء العملي، وتتحول المسألة إلى مسألة أخرى، خارجة عن مفهوم الجهاد في سبيل الله، عمل لتحقيق المطامع، للحصول على مناصب، للحصول على أموال، للحصول على مكاسب شخصية، وبسلوكيات سلبية غير إيمانية، خارجة عن الاستقامة؛ حينها يحصل الظلم، حينها يحصل الفساد، حينها يحصل الشتات، حينها تظهر السلبيات الكثيرة، وهذا غير مقبول أبداً، ولا يمثِّل الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله هو عمل إيماني، منطلقاته إيمانية، دوافعه يجب أن تكون إيمانية، والالتزام فيه في كيفية الأداء، في عملية التنفيذ، في كل تفاصيلها، يجب أن تكون محكومةً بالإيمان، الإيمان أخلاق، الإيمان تشريع، الإيمان كذلك توجيهات وتعليمات، الإيمان ضوابط يلتزم بها الإنسان.
من مواصفات المؤمنين حقاً
فالمؤمنون حقاً هم الملتزمون بهذا، وهم من: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ لاستشعارهم لعظمة الله، لخوفهم من الله، لمحبتهم لله، لرجائهم في الله، قلوب ملؤها الإيمان، الإيمان حاضرٌ فيها، يحل محل الأطماع، محل الأنانيات، إيمانٌ يعمر هذه القلوب ويؤثِّر فيها، فإذا ذكر الله، وذكر الله -سبحانه وتعالى- هو ذكرٌ في مقام العمل، في مقام المسؤولية، في مقام العبادة والطاعة؛ وبالتالي تتأثر وتتقبل، الإنسان الذي يوجل قلبه من ذكر الله -سبحانه وتعالى-، إذا ذُكِّر بالله حتى في حالة الغفلة التي كان فيها قد خالف، أو أخطأ في شيءٍ ما، أو كان توجهه في موضوعٍ ما توجهاً خاطئاً، فهو بالتذكير له بالله -سبحانه وتعالى- يتأثر، ويخاف من الله -سبحانه وتعالى-؛ فيتقبل، وينضبط، ويلتزم، ويطيع الله -سبحانه وتعالى-، وينفِّذ تلك التعليمات مهما كانت مخالفةً لهوى نفسه، مهما كان بمزاجه الشخصي لا ينسجم معها، مهما كان في حالة غضبٍ وانفعال، أو في حالة إغراءٍ وأطماع، أو في حالة مخاوف ضاغطة سلبية، فالتذكير له بالله -سبحانه وتعالى- يترك أثراً إيجابياً في نفسه يساعده بل يدفعه إلى الالتزام العملي.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، فهم إذا ذُكِّروا بآيات الله -سبحانه وتعالى- يزداد وعيهم، يزداد فهمهم، تزداد بصيرتهم، تزكو نفوسهم، يتأثَّرون؛ فيتقبَّلون- وفي نفس الوقت- تتجلى لديهم الحقائق في الواقع العملي بما يزيدهم بصيرةً، بما يزيدهم قناعةً، بما يزيدهم يقيناً، فزيادة الإيمان عند التذكير بآيات الله هي زيادةٌ في الوعي، زيادةٌ في الفهم، زيادةٌ في البصيرة، زيادةٌ في المعرفة، زيادةٌ في زكاء النفس، زيادةٌ في إصلاح الإنسان وتهذيبه، وتصحيح وتصويب تصرفاته وأعماله وسلوكياته ومواقفه، وفي تصحيح توجهاته واندفاعاته ومنطلقاته، وهي أيضاً تجلٍ في الواقع بشكل حقائق تظهر في الواقع العملي، ونتائج تظهر في الواقع العملي، تمثل شواهد لتلك الآيات التي سمعها الإنسان في كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ فيزداد يقيناً بهدي الله وبآيات الله -سبحانه وتعالى-.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وهم يعتمدون بشكلٍ أساسيٍ وتامٍ وكاملٍ على الله -سبحانه وتعالى-، اعتمادهم على الله -سبحانه وتعالى- كلياً من منطلق الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، من منطلق الالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-، والاعتماد عليه، والأمل بفضله، والرجاء فيما وعد به؛ ولذلك لا يعتمدون على أنفسهم، ولا ينطلقون من حسابات يرتكزون فيها على ما يؤملون أن يحققوه شخصياً، بل كل اعتمادهم على الله، وتوكلهم على الله -سبحانه وتعالى-، هذا التوكل الذي يساعدهم على الانطلاق في مواجهة التحديات مهما كانت، في عدم التأثر بالمخاوف والاعتبارات الأخرى، فمثلاً: الخوف من الفقر، أو الخوف من الظروف الصعبة، أو الخوف من نفاد ما يمتلكونه أو ما بأيديهم من وسائل، لا يؤثِّر عليهم، وهذا يساعدهم على الاستقامة، إذا ضعف توكل الإنسان على الله، فهذا يؤثِّر عليه تأثيراً سلبياً حتى لو كان يتحرك في سبيل الله.
مثلاً: يظن أنه إذا لم يغل من الغنائم، إذا لم يحسب حساب مصالحه الشخصية، أو حتى في إطار الحسابات العملية، فيتجه إلى اللعب، ويتجه إلى الإخفاء، ويتجه إلى تصرفات سلبية؛ لأنه يظن أنها هي التي ستفيده في المستقبل، هنا لم يعد يحسب حساب الله -سبحانه وتعالى-، يحسب حساب شطارته حسب التعبير المحلي، أنه وبحسب ذكائه، وما يفعله من حيل والتواءات وتصرفات فيها غش، فيها غلول، فيها خداع، فيها ابتزاز، فيها سلوكيات مقيتة، لا تشرفه أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا إيمانياً، فهو تصرف ليحصل على أكبر حصة ممكنة من الإمكانات على حساب كل الأعمال الأخرى، وكل الجبهات الأخرى، أو يتصرف بأي طريقة غير سوية، ولا سليمة، ولا إيمانية، ولا أخوية، ينطلق هكذا سجيناً وأسيراً للحسابات الشخصية والنظرة الشخصية، وقد ضعفت ثقته بالله -سبحانه وتعالى-، وأمله بالله، وتوكله على الله -سبحانه وتعالى-.
التوكل على الله ركيزة أساسية في العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، أمام كل هذه السلبيات والمخاوف: المخاوف من الأعداء، المخاوف أيضاً على المستوى الاقتصادي، المخاوف على المستوى المادي… المخاوف من كل جانب، الإنسان المؤمن حقاً هو دائماً دائماً في كل الظروف، في كل المراحل، في كل المحطات، تجاه مختلف الأوضاع، هو متوكلٌ على الله -سبحانه وتعالى-، وقُدِّمت هذه المواصفات: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، على ربهم يتوكلون، كلها معطوفةً على بعضها البعض كمواصفات إيمانية موجودة وقائمة ومستمرة ولازمة.
ضرورة الاستقامة على المواصفات الإيمانية
ولاحظوا أهمية ذلك؛ لأن البعض قد تكون منطلقاته إيجابية في البداية وفي مراحل معينة، إلى أن يصل إلى مراحل معينة، في مرحلة من المراحل تتغير نفسيته، يتحول إلى إنسان ضَعُفَ التزامه العملي، طاعته العملية، استقامته في مجال العمل، وأصبح لا ينفع فيه التذكير بآيات الله، يصل إلى هذا المستوى من السوء، وهذه حالة لم يعد الإنسان فيها مؤمناً حقاً.
مثلاً: إذا أصر على فساد ذات البين وهو يذكر بماذا؟ بآيات الله، بكلمات الله، بتوجيهات الله، بتعليمات الله، بأوامر الله في إصلاح ذات البين، فيرفض، ويصر على فساد ذات البين، عليه أن يعرف، حتى وإن كان قد جاهد، حتى وإن كان قد عمل، حتى وإن كان قد ضحى، لكنه وصل إلى وضعية خطيرة، وهو في منزلقٍ خطير قد فقد فيه إيمانه بالله -سبحانه وتعالى-، وأصبح أسيراً لمقاصد شخصية، لأغراض شخصية، لمنطلقات شخصية سجنته وغطت على قلبه، وأفسدت نفسيته إلى درجة فقد فيها التأثر بآيات الله -سبحانه وتعالى-، ليست مسألة سهلة إذا فقد الإنسان تأثره بآيات الله، قضية خطيرة جدًّا، قضية خطيرة للغاية، {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى: 10-12]، يعتبر هذا مؤشراً خطيراً، على الإنسان إذا أحسَّ به في نفسه أن يحذر، أن يسعى للخروج من تلك الحالة الخطيرة جدًّا.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، فهم دائمو التوكل على الله -سبحانه وتعالى- في مختلف المراحل والظروف، عندهم ثقة بالله وأمل عظيم فيما عند الله، مهما كانت التحديات، مهما حصل في الواقع، لا يفقدون ثقتهم بالله، ولا أملهم بالله، ولا التجاءهم إلى الله -سبحانه وتعالى-.
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، من الحالات اللازمة لهم الصلاة القيمة، فهم مستمرون على اهتمامهم بالصلاة، وأن تكون صلاةً قيمة، تؤتي ثمرتها في أنفسهم، في استقامتهم، في التزامهم، تنهاهم عن الفحشاء وعن المنكر بكل أشكاله، المنكر الذي يأتي إلى التصرفات، والسلوكيات، والأعمال، والمواقف، والتوجهات، والنفسيات.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وهم يحملون روحية العطاء بشكلٍ دائم، فكل ما رزقهم الله رزقاً ينفقون منه، وهي حالةٌ مستمرةٌ عندهم (روحية العطاء والإنفاق)، ولذلك ليسوا ممن يحمل روحية الطمع، ولا يفكر إلا بأن يأخذ، ولا يفكر إلا بأن يحتكر، ولا يفكر إلا بأن يسيطر على المزيد والمزيد، |لا| هم يختلفون عن ذلك، روحيتهم روحية عطاء وروحية إنفاق، وهذا على نحوٍ واسع يعني: يشمل الزكاة، يشمل الإنفاق في سبيل الله، يشمل الصدقة في البر، يشمل التعاون في العطاء فيما فيه الخير، فيما فيه العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، غيرهم عنده نقصٌ في إيمانه، قد يصل إلى انعدام حالة الإيمان.
العطاء الإلهي للمؤمنين حقاً!
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، مراتب عالية، هذه المراتب عند الله -سبحانه وتعالى- يترتب عليها رعاية من الله، يترتب عليها مستوى العطاء الإلهي لهم، حتى مستوى منازلهم في الجنة، ومستوى ما أعده الله لهم في الجنة.
البعض مثلاً في مقابل أن يحصل على رتبة، قد تكون هذه المسألة في غاية الأهمية عنده، وأن تكون رتبة عالية: رتبة عقيد، رتبة عميد، رتبة لواء، رتبة مشير، رتبة فريق… المراتب هذه، طموح إليها، وقد يعمل أي شيءٍ في مقابل الوصول إليها.
هذه المراتب أعلى، أعلى من مسألة رتبة عميد، أو لواء، أو فريق، أو مشير… أو غير ذلك، رتبة عند الله، ومنزلة عالية عند الله -سبحانه وتعالى-، يترتب عليها أشياء كثيرة جدًّا، في تدبير الله، في رعايته، فيما أعده، فيما يعطيه من واسع فضله -سبحانه وتعالى-، وهذا ما تطمح إليه النفوس العالية، وذوو الهمم العالية والنفوس الرفيعة، تطمح إلى المقام والمنزلة العالية عند الله -سبحانه وتعالى-، وهذا هو الأهم.
{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، (وَمَغْفِرَةٌ): مغفرة على الزلل، مغفرة على التقصير الذي يسعون إلى تداركه، وعلى التقصير الذي قد يحصل- عادةً- في الواقع العملي، مهما بذل الإنسان جهده يبقى عنده تقصير، فهم ينيبون إلى الله، وهو -جلَّ شأنه- الذي يغفر لهم بهذا التوجه، بهذا التقبل، بهذا الاهتداء، بهذا التجاوب، هذه الاستجابة مع تعليمات الله وتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-.
{وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}: وعدٌ من الله -سبحانه وتعالى- بالرزق الكريم، رزقٌ كريمٌ في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة الجنة، رزقٌ كريمٌ جدًّا وعظيمٌ جدًّا، وفي الدنيا يمنحهم الله ما يمنُّ به عليهم من الرزق بكرامة، من دون تحيلات، من دون أساليب سلبية، ووسائل غير مشروعة للحصول على المال من هنا أو من هنا، أو للخيانة، أو للغلول، أو للحيل والالتفافات للحصول على المزيد والمزيد من الأموال، الطرق غير الكريمة، الطرق التي هي سلبية وسيئة ودنيئة؛ أما هم فيحصلون على رزقٍ كريمٍ من الله؛ لالتزامهم، وإيمانهم، وتقواهم.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة التاسعة عشر (يوم الفرقان- 2) 1441هـ