عبد القوي السباعي
حدَّثنا حارسُ التاريخِ ومُوقظُ الضمائر المستنيرة، وكان من أرباب الوعي والبصيرة؛ فقال: يا صاحِ، اقرأ بلسانِ البلغاءِ صَفحَةً من كربلاء، تلك التي ما برحت تنسجُ خيوطَها من نينوى حتى غزة، ومن شامِ العزة إلى يمنِ الإباء؛ فإن كنتَ من طينةِ الأحرار، فاسمعْ حديثَ المقامِ، حديثَ سيدٍ ما انحنى، ولا جَبُن، ولا استكان.
رأيتُهُ، بأبي هو وأمي، قد أشهر دمَهُ في وجهِ الطاغوت، وسلّ سيفَ الفداء من غمدِ التاريخ؛ فظل نجمُهُ خريطةً يهتدي بها المجاهدون في كُـلّ الأرجاء، ورايةً لا تُنكَسُ مهما تساقطتِ القلاع وحصون الأنقياء؛ فما كربلاءُ إلا جبهةٌ واجدةٌ، تخضبت بدماءٍ زاكيّةٍ، ما بين طفلٍ رضيع، وشهيدٍ صريع، ومجاهدٍ برغم القلة نهض يخطّ على الرمال "هيهات منّا الذلّة".
في العاشرِ من محرمٍ الحرام، يا صاحِ، عادَ الإمام الحسينُ من محرابهِ وسيفهِ، متلحفًا عباءة جده، عادَ يخطبُ لا بلسانٍ من نار؛ بل بدمٍ يُذيبُ الصخرَ ويُصقلُ الفهم، ليقول لمن تكالبوا عليه: "إنْ لم يكن لكم دين، فكونوا أحرارًا في دنياكم".
رأيتهُ، والناسُ في أقبيةِ الذلِّ يهمسون، يخافون سيفَ الجلادِ أكثر من سيفِ ربّ العباد؛ فناداهم الحسينُ بنداءِ الله: "ألا ترون إلى الحق لا يُعمَلُ به والباطل لا يُتناهى عنه؟!"، ومضى في درسٍ ليعلمنا بأنَّ التضحية بالنفس لا بدَّ منها لتحقيق رضا الله عبر نصرة الحق.
رأيتهُ وهو يخاطب أصحابهُ، وقد أيقظَ فيهم مكامنَ بأسٍ كادَ يَخبو، وجعل الصبرَ جسرًا إلى النصر، والنصرَ ثمرةً دانيةً لمن مدّ يده من بين أنقاضِ القهرِ والخذلان.
وفي مثل تلك الساعاتِ القواطع، رأيتهُ وقد صدحَ دمهُ في غزةَ هاشم، وتلألأَ في وجوهِ المجاهدين، أُولئك الذين سجدوا للهِ بمدافعهم، وركعوا خلفَ خطوطِ النارِ بحناجرهم، ومضَوا يزلزلونَ الأرض تحت أقدامِ الدعي الجديد؛ فاستوقفتهُ: ما لي وما يحدث اليوم؛ فقال: رويدك يا هذا.. فَــإنَّ روح الطفّ ومَدامِعِ الشهادة في كربلاء تستنطق من عاشوراء ميثاقها المتجدد.
يا صاحِ، أما علمتَ أن الصراعَ في فلسطين ليسَ مع حدودٍ ومستوطنات واحتلال؛ بل مع النسيجِ المقدّسِ للأُمَّـة، مع جوهرِ الحقِّ والكرامة؟ فويلٌ لمن بدّل رايةَ محمدٍ بالخِذلان، وويلٌ لمن أطفأ نارَ الحسينِ ليوقد شمعةً في بلاطِ السلاطين!
واللهِ، ما عادتِ الأُمَّــةُ أُمَّـةً إن لم تَسِرْ على نهجِ الحسين، ولا كُتبت للعربِ صحوةٌ إن لم تكن تحت لواءِ عاشوراء وثورة كربلاء، حَيثُ كُـلّ خطوةٍ نحو الجبهاتِ تكبيرة، وكلُّ قذيفةٍ آيةٌ تُتلى على مسامعِ الطغاة، وكلُّ صاروخٍ على ثكنات الأعداء، سوط عذاب من رسل السماء.
ثم قال الراوي، وقد بلّت دموعُهُ الرملَ، وخَنَقَ الحرفَ في حنجرتهِ الألمُ: ألا وإن الدعيَّ ابنَ الدعيِّ وصاحب البيت البيضوي اليومَ؛ قد ركزَ رايتَهُ بين خزيِ التطبيعِ وعزِّ النهجِ المنيع؛ فاختارَ أقوامٌ الذلة والخنوع، وركبَ آخرون خيلَ الصبرِ والثورة بلا نكصٍ أَو رجوع.
ذلك، يا صاح، هو الميراثُ والثورةُ التي لم تزل، ولن تزولَ، ومن أجلها نُقسِمُ، ونوقن، ونشهد، أن أبا عبد الله لا يزالُ يصرخُ فيهم: "هيهات منّا الذلة.. يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، ونفوسٌ أبية، وأنوفٌ حميّة".
ثم انصرف الراوي، وقد تركني بين قُبابِ الدمِ والبطولة، أقلبُ طرفي في وجوهِ المجاهدين، من لبنان وإيران والعراق إلى اليمن وفلسطين، وأصيح في سِرِّي وفي سريرتي: سلامٌ على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين.. في عهدٍ متجدد لميثاق الحسين.