كذلك هناك جانب آخر- أيضًا– يمثِّل خطورة كبيرة جدًّا، ويصل في خطورته إلى مستوى مقارب لهذه المشكلة، وهو مشكلة الكتمان للحق وللهدى: هناك من يأتي ليشتغل بافتراءات- بحسب ما وضحناه- في اتجاه اختلاق لما يقدم كمحسوب على الإسلام وتحريف للمفاهيم، وهناك- أيضًا في المقابل- من يسكت، من يصمت، من يكتم الهدى والحق، في المقام الذي تكون فيه الأمة أحوج ما تكون إلى التبيين، إلى التوضيح، وإلَّا إما ضلت، أو ظلمت، وظلمت بالضلال، أو ظلمت في الواقع العملي والحياتي.
الكتمان- أيضًا- يمثِّل مشكلة خطيرة جدًّا، وعانت الأمة بسببه معاناة كبيرة جدًّا، الله يقول في القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ∗ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159-160]، كيف تحصل حالة الكتمان هذه؟ عندما يكون هناك ضغط كبير أو إغراء، يعني: في المرحلة التي تتجه فيها قوى الضلال- مثلما فعل بنو أميَّة- إلى تعميم ثقافة معينة، أطروحات معينة، يقدِّمون بدائل معينة باسم الدين، ينزلون للناس مناهج أو أفكارًا معينة؛ ويعتمدونها في واقع الأمة، يشتغلون- في الوقت نفسه – حتى لا يصل الحق إلى الناس، ولا يبقى منهجًا قائمًا تربَّى عليه أجيال الأمة، يشتغلون في اتجاهين للعمل على إسكات الآخرين عن أن يقولوا الحق:
حالة التخويف والتهديد والوعيد: وتؤثِّر هذه الحالة بشكل كبير على كثيرٍ من الناس، فعندما يرى أنَّ القول بالحق، وأنَّ التبيين للموقف الحق، أو العقيدة الحقة، أو المبدأ الحق، أو المفهوم الحق الذي يعبِّر عن حقيقة الدين، ويتطابق- تمامًا- مع ما يقدِّمه القرآن والرسول -صلوات الله عليه وعلى آله-؛ يرى أنَّه من المحتمل أن يدفع ثمن ذلك، يتعرض للخطر، يتعرض للسجن، أو يتعرض للشهادة، أو للمضايقة، أو اللوم والتوبيخ، أو يفقد مكانته المعتبرة في الساحة، وتوجه إليه: الإهانات، والاتهامات، و…إلخ. فالبعض من الناس يسكت، يتفادى ما يمكن أن يحصل له من مشكلة، في مقابل أنه صدع بالحق، وقال بالحق، ونطق بالحق، وقدم ما يعبر عن حقيقة الإسلام؛ يتفادى ما يمكن أن يحصل له من مشاكل، أو خطورة تهدده في حياته، أو تهدده في وضعه الاقتصادي، أو تهدده في مكانته الاجتماعية… أو نحو من ذلك.
البعض- أيضًا- بالإغراء: تقدَّم إليه الإغراءات المادية؛ حتى يصمت عن قول الحق في مسائل معينة، ويحصل كلا الأمرين، ولهذا قال الله -سبحانه وتعالى- في آيةٍ أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ}[البقرة: من الآية174]، هذه الفئة أثَّر عليها الإغراء المادي، أُعطي مرتَّبًا معينًا، أموالًا معينة؛ وبالتالي يصمت عن قول الحق، وعن تقديم الهدى الذي في كتاب الله كما هو، وتقديم الدين من كتاب الله كما هو، يأتي ليسكت عن أشياء مهمة، أشياء حسَّاسة، أشياء تزعج قوى الضلال والباطل؛ فيصمت عنها، ويسكت عنها، مثلما سكت الكثير ممن قد عرفوا وعلموا من كتاب الله ما قامت الحجة به عليهم أولًا قبل غيرهم، وسكتوا، سكتوا عن الجهاد، وفي القرآن الكريم مئات الآيات تتحدث عن الجهاد، البعض لا يتكلم بآية حول هذا الموضوع، عن المسؤولية في جوانبها الأخرى، عن الموقف من أعداء الله، عن مسائل مهمة جدًّا، يصمت البعض عنها، ويسكت، ويكتم، هذا الكتمان يساعد على تغييب الحق من الساحة، يظل الناس لا يسمعون كلامًا عن هذه المسألة: عشر سنين، عشرين سنة، خمسين سنة وهم لا يسمعون كلامًا عن هذا الموضوع، حتى يغيب من ذهنية الناس، وكأنه ليس من الدين، ومعروفة هذه الحالة في كثير من الأوضاع والظروف حصلت.
هذه الفئة من الناس (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ)، لأن المسؤولية في تقديم ما أنزل الله كما هو، القرآن تحدَّث عن جانب المسؤولية، قدِّمه مثلما تقدِّم بقية المسائل، أنت شخصية علمائية، أو مثقفة… أو نحو ذلك، قدِّم ما أنزل الله كما هو، وبمستواه من الأهمية، لا تهمش مسألة رئيسية وتقدمها وكأنها مسألة هامشية، وهي أساسية، والقرآن أعطاها ما أعطاها من الأهمية، تحدث بشكل صحيح، هذه الفئة موعودة بهذا العذاب الإلهي: {أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}[البقرة: 174-175]، لمَّا أخذوا المال، وأخذوا مصالح معينة مقابل أن يسكتوا عن قول الحق؛ كان حالهم على هذا النحو: {اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى}، {وَالْعَذَابَ}، اشتروا لأنفسهم عذابًا، {بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[البقرة: 175-176].
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
من كلمة السيد القائد/ عبد الملك بدر الدين الحوثي / حفظه الله.
بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام 1440هـ- الرابعة