لما اشتد تعذيب قريش لمن آمن من المستضعفين أشار رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› على أصحابه بالهجرة إلى الحبشة فهاجر أحد عشـر رجلًا وأربع نساء.
ولكن قريشًا نشرت خبرًا أنها تركت تعذيب المسلمين، فلما بلغهم الخبر رجعوا بعد شهرين فوجدوها حيلة لإعادتهم.
ولكن رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› أشار عليهم مرة ثانية بالهجرة وجعل على رأسهم جعفر بن أبي طالب ‹رضي الله عنه› فخرج ثلاثة وثمانون رجلًا وثماني عشـر امرأة بسرية تامة وتخطيط محكم، فلما علمت قريش غضبت غضبًا شديدًا وأرسلت عمرو بن العاص (أحد دهاة العرب وصديق ملك الحبشة) وحمَّلته بالهدايا للملك ووزرائه.
عمرو بن العاص راكعًا بين يدي ملك الحبشة: كيف حال مولاي الملك المعظم؟
النجاشي: على أحسن حال.. كيف أنت يا عمرو؟.. لقد غبت عنا كثيرًا....
دار الحديث بينهما وسلم إليه الهدايا.
النجاشي: ما أقدمك إلينا يا عمرو؟
عمرو: لقد فر إلى أرضكم من قومنا فتية خرجوا عن ديننا ولم يدخلوا في دينكم وجاؤوا بدين جديد.
البطارقة (وزراء النجاشي): نرى أن تسلمهم لعمرو يا مولانا الملك.
النجاشي: فأتوا لنسمع منهم قبل أن نسلمهم.
جعفر بن أبي طالب: كنا قومًا أهلَ جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسِيئُ الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف: نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقولِ الزُّورِ، وأكلِ مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام- وعدد عليه أمور الإسلام-؛ فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله؛ فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئًا، وحَرَّمْنَا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا؛ فَعَدَا علينا قَومُنَا فعذبونا، وفتنونا عن ديننا؛ ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا، وظلمونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا - خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارِك، ورجونا ألاَّ نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر: نعم، فقال النجاشي: فَاقْرَأْهُ علي، فقرأ عليه صَدْرًا من(كهيعص)، فبكى النجاشي حتى اخْضَلَّتْ لحيته، وبكت أساقفته حتى أَخْضَلُوا مصاحفَهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مِشكاةٍ واحدة؛ انطلقا فلا والله لا أُسَلِّمُهُمْ إليكما، ولا يُكَادُونَ! وقد أسلم رحمه الله، ولما مات صلى عليه النبي وأصحابه صلاة الغائب.
وفي اليوم الثاني جاء عمرو بن العاص وقال للملك: إنهم يقولون في عيسـى قولًا عظيمًا فاستدعى النجاشي جعفر بن أبي طالب وسأله.
النجاشي: ما تقولون في عيسى بن مريم؟
جعفر: نقول فيه ما يقوله نبينا، وتلا من سورة مريم:
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ۖ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا ۚ وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)}
حتى بكى النجاشي والبطارقة.
النجاشي: انطلق يا عمرو فوالله لا أسلمهم إليكم. ثم يلتفت إلى غلمانه قائلًا: ردوا إليهم هداياهم.
وتعود قريش خائبة ويفرح رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› والمؤمنون بذلك..