إنَّ الدروس التي تستفيدها الأمة اليوم عن السيرة النبوية في حركة رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله" في تلك الظروف، وما حققه الله على يديه من نتائج، هي في غاية الأهمية، والنجاح الذي تحقق، ومستوى التغيير الذي امتد في أنحاء المعمورة، والتطورات الكبيرة المتلاحقة التي سقطت بها امبراطوريات ودول كبرى آنذاك، كل ذلك يمثِّل درساً مهماً جداً وكبيراً يجب استيعابه والاستفادة منه.
لقد كانت البداية صعبة، وواجه فيها رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله" التحديات الكبيرة، بدءاً من مجتمع مكة، وقد انزعج الملء والمستكبرون من الإسلام، وعملوا بكل جهدهم للتصدي للرسالة الإلهية وبكل إمكاناتهم، فكانت الحرب الإعلامية والدعائية، والاضطهاد والصد والعداء الشديد في المرحلة المكية.
ثم بعد هجرة النبي "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" إلى المدينة وما شهدته تلك المرحلة من حروبٍ عسكرية واقتصادية، ومن تحالفاتٍ معاديةٍ للرسول والمسلمين، لقد اشترك في العداء والحرب على الإسلام ورسوله والمسلمين- آنذاك- العرب واليهود وإمبراطورية الروم، التي كانت- آنذاك- في مستوى نفوذها وقوتها أكبر دولةٍ في ذلك العصر، ولم يكن لدى رسول الله "صلوات الله عليه وعلى آله" الإمكانيات المادية الكبيرة التي يعتمد عليها في مواجهة تلك التحديات، بل كان التمويل يعتمد على إنفاق المؤمنين، وهم قلةٌ قليلة، وإمكانياتهم محدودة، وأكثرهم كانوا من الفقراء والمستضعفين، وبتلك القلة القليلة من المسلمين الذين كانوا بالعشرات، ثم بالمئات، ثم بالآلاف، ومن منطقةٍ صغيرة احتضنت هذا المشروع الإلهي، هي المدينة المنورة، بعد هجرة النبي إليها انتصر الإسلام، واتسعت رقعته، وأحدث تغييراً كبيراً وتحولاً هائلاً في الواقع، ولم يكن مجرد انتصارٍ عسكري، وأحدث نقلةً كبيرةً في واقع المسلمين من أمةٍ مستضعفةٍ صغيرةٍ، إلى أمةٍ في المرتبة في الواقع البشري، بعد أن تهاوت أمامها الإمبراطوريات، وكبريات الدول والكيانات الأخرى، وأصبحت الأمة الإسلامية يومئذٍ هي الأقوى حضوراً وتأثيراً وقوةً في الساحة العالمية، وكل هذا في غضون سنواتٍ معدودة، فلماذا؟ ما هو سِرُّ قوة هذه الرسالة، وسِرُّ نجاحها، وسِرُّ نجاح الرسول "صلوات الله عليه وعلى آله" في إحداث كل هذا التغيير والتحول؟
لأن رسالة الله تعالى تمتلك من عناصر القوة والتأثير والنجاح ما لا مثيل له في أي مشروعٍ آخر، ونذكر بعضاً منها باختصار:
أولاً: هي رسالة الله ودينه الحقَّ، تحظى أيُّ أمةٍ تتمسك بها برعاية الله وتأييده ونصره، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، فالله "جلَّ شأنه" هو الذي يدعم وينصر هذه الرسالة، والأمة التي تؤمن بها، وتلتزم بها، وتتحرك على أساسها، تحظى من الله بتأييده ومعونته ونصره.
ثانياً: هي دين الفطرة، تنسجم مع الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، وعندما تصل بشكلٍ صحيحٍ وسليمٍ إلى الناس، ويرى الناس نماذج لها في واقع الحياة؛ يتقبلونها، وينسجمون معها، إلَّا من طبع الله على قلبه وخذله.
ثالثاً: كان لرسول الله "صلى الله عليه وعلى آله" دورٌ أساسيٌ بما منحه الله "سبحانه وتعالى" من مؤهلاتٍ عالية لحمل هذه الرسالة والتحرك بها، وفي إيمانه العظيم، وفي أخلاقه العالية التي بلغ بها أعلى مرتبةٍ يمكن أن يصل إليها بشر، كما قال الله "سبحانه وتعالى" مقسماً: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم: الآية4]، وفيما كان عليه من حرصٍ عجيب، واهتمامٍ كبيرٍ جداً في سعيه لهداية الناس، كما قال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: الآية128]، وفي صبره العظيم، وتحمله، وثقته بالله تعالى، وتوكله عليه، فكان له دورٌ أساسيٌ في إحداث ذلك التغيير الكبير، ونجح في مهمته لتبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وإقامة الحجة، وتصحيح مسار البشرية، ومواجهة أصعب التحديات، نجاحاً لا مثيل له.
رابعاً: تمتلك الرسالة الإلهية من الخصائص ما لا مثيل له في أي مشروعٍ آخر؛ لأنها من الله، من حكمته، من رحمته وعلمه بما هو خيرٌ وصلاحٌ لعباده، وهي شاملةٌ تشمل كل الجوانب المهمة للإنسان في تصحيح فكره وثقافته ومفاهيمه، فهي نور الله الذي يخرجنا من الظلمات، وفي تزكيتها للنفس، وتطهيرها من الدنس، وتربيتها على مكارم الأخلاق، وفي تعزيز صلة الإنسان بالله في تعاليمه، وفي رعايته المصاحبة لها، وفي بنائها الصحيح لحياة الإنسان وترشيد سلوكه وتصرفاته، إنها رسالةٌ تصلح الإنسان، وتصلح حياته، وتقدِّم أعظم برنامجٍ يسير عليه في حياته، وهي بذلك الطريقة الوحيدة لإنقاذ البشرية مما تعانيه اليوم من أزمات ومشاكل متنوعة.
خامساً: حفظ الله هذه الرسالة بأعظم وأهم وثيقةٍ موجودةٍ في الأرض، وهي القرآن الكريم كتاب الله المبارك والمعجزة الخالدة، كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[الحجر: الآية9]، وهو الكتاب العجيب الذي أنزله الله "جلَّ شأنه" لهداية عباده، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}[الإسراء: من الآية9]، واعتمد عليه رسول الله "صلى الله عليه وعلى آله وسلم" في مهمته الرسالية بشكلٍ كبير، وهو في سعة معارفه وعلومه الواسعة كما قال الله "سبحانه وتعالى" بشأنه: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}[الكهف: الآية109]، وهو الحق الخالص الذي لا يشوبه ولا مثقال ذرةٍ من الضلال والباطل، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت: 41-42]، وهو النور والفرقان الذي تكسب به الأمة أعلى درجات الوعي ومستويات الفهم والمعرفة الصحيحة والحكمة، ولا نجاة، ولا رحمة، ولا خلاص، إلَّا بالتمسك به واتِّباعه، هذه بعضٌ من العناصر المهمة الكفيلة بالنجاح والفلاح لمن يتمسك بهذه الرسالة الإلهية.
من خطاب السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي في ذكرى المولد النبوي الشريف 1441هـ