إنَّ الموقع الذي تحتله المسؤولية- كما قلنا- في مجالاتها المتعددة: في إقامة العدل، وإحقاق الحق، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- والمصداقية في الولاء، وعدم الانحراف في الولاء، هذه المسألة موقعها في الدين الإسلامي لدرجة أنَّ الله جعلها معيارًا لمصداقية الإنسان في انتمائه الإيماني، لهذا المستوى من الأهمية.
ولذلك، عندما نتجه إلى النصوص القرآنية، والآيات المباركة، وما يقوله الله فيها؛ ندرك خطورة التفريط في هذا الجانب، ومساوئه، وما يترتب عليه، الله -سبحانه وتعالى- أكَّد في القرآن الكريم في آيات كثيرة على هذه النقطة: على أنَّ النهوض بهذه المسؤولية، أو التفريط فيها إنَّما يعتبر شاهدًا ومجليًا وموضحًا وكاشفًا لحقيقة مصداقية الإنسان، فالذي يحدد مصداقيتك مع الله -سبحانه وتعالى- هو ما أنت عليه في مدى تحملك لهذه المسؤولية، والتزامك بها، وتفاعلك معها.
نجد أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يقول في كتابه الكريم: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ}[آل عمران: من الآية179]. في حالة الانتماء للإيمان، المجتمع الإسلامي بمعظمه ينتمي إلى الإيمان، والكل يأتي ليقول عن نفسه: [أنَّه من المؤمنين، وأنَّه مؤمن بالله واليوم الآخر، وما أمر الله بالإيمان به]، والبعض حتى قد يأتي مدعيًا اختصاصه بذلك، وأنَّه المؤمن حقًا، الله -سبحانه وتعالى- جعل في سنته وطريقته مع عباده أن يجلِّي واقعهم، ويبين حقيقتهم في ما هم عليه من خلال هذه السنة الإلهية، وهي سنَّة الاختبار الكاشف، الذي يجلِّي حقيقة ما كل إنسان عليه، وما ينتمي إليه، وما هو في واقعه وداخله.
هناك كثير من الأعمال يمكن لكثير من الناس أن يقوم بها، لا تحتاج إلى إيمان كبير، لا تحتاج إلى قيم راسخة، لا تحتاج إلى دافع كبير حتى يتمكن الإنسان من القيام بها، وبالذات عندما يكون الواقع العام في مجتمعٍ معين، كالمجتمع الإسلامي، يتعود الإنسان فيه منذ نشأته، منذ طفولته المبكرة على أشياء عبادية معينة، وتتحول إلى روتين اعتيادي في حياته، ولا تمثِّل- حينها- أي مشكلة عليه، بل قد يدخل في مشكلة فيما لو أخلَّ بها، مثلًا: في مجتمعنا الإسلامي كم نسبة المصلين؟ نسبة عالية جدًّا، هذا أمر جيد، والصلاة خير العمل، والمطلوب الاهتمام بها، ولكن الخطأ إذا فُصِلت عن جانب المسؤولية، أو إذا أصبحت عملًا روتينيًا اعتياديًا لا يحاول الإنسان أن ينتفع منه، أن يتأثر به، أن ينشد من خلاله إلى الله -سبحانه وتعالى-.
في الجو الاعتيادي والروتيني الذي ينشأ عليه المجتمع المسلم منذ الطفولة، والإنسان يعتاد- مثلًا– أن يذهب إلى المسجد، أن يصلي… حالة عامة لدى الكثير من الناس، لا يتطلب الأمر أن يحتاج الإنسان إلى اندفاع إيماني كبير، انشداد عظيم إلى الله في: المحبة لله، والخوف من الله، والرغبة فيما عند الله، والإيمان باليوم الآخر، والتَّربية على قيم وعلى أخلاق معينة، حتى يستطيع الإنسان أن يذهب إلى المسجد للصلاة، أو أن يصلي. |لا|، يعني: مستوى التعود فقط يكفي في أن تصلي، ما بالك والمسألة عادية، بالذات إذا كانت الأجواء أجواء طبيعية، ليس هناك ما يمثِّل مشكلة في سبيل أدائك للصلاة، لن تدفع في مقابل ذلك شيئًا من أمنك، ولا استقرارك، ولا أي شيء آخر. وهكذا البعض من الأعمال الروتينية الاعتيادية التي يؤديها الإنسان بمقتضى التعود، وبمقتضى أنَّه استمر عليها كروتين لفترة طويلة في حياته، وألفها في واقعه الاجتماعي، يمكن أن يؤديها بشكل طبيعي، وأداؤها في مثل هذا الظرف أمر اعتيادي- كما قلنا- لا يحتاج إلى مستوى عالٍ من الإيمان، ثم تجد كثيرًا من الأعمال التي أداؤها أمر اعتيادي، ليس فيه مشقة بالغة، ولا خطورة، ولا يحتاج إلى دفع ثمن، يعني: لا يحتاج القيام بها إلى مخزون إيماني، إلى دافع إيماني كبير، ولا يحتاج- أيضًا– إلى كلفة.
لكن عندما تأتي إلى بعضٍ من الأعمال التي: إما أنَّ الإنسان سيدفع لها- مثلًا– من ماله، أو يعرِّض فيها حياته للخطر، أو يواجه فيها صعوبات ومشاق وتحديات، الكثير من الناس يُحجِمون عن أداء مثل هذه الأعمال، ولا يتوفر لديهم الاندفاع الكبير للقيام بها؛ لأن الدافع هذا هو دافع إيماني، يحتاج إلى أن تكون محبتك لله -سبحانه وتعالى- على مستوى يفوق أي محبة لأي شيء آخر؛ حتى لا يمثِّل أي شيء آخر مما تحبه عائقًا بينك وبين أداء ذلك العمل، وتحمل تلك المسؤولية، أحيانًا الخوف، يمكن أن يؤثِّر عليك الخوف في ثباتك على موقف معين، أو اندفاعك لموقفٍ معين، يحتاج هذا إلى أن يكون خوفك من الله -سبحانه وتعالى- أكبر من خوفك من أي شيءٍ آخر؛ حتى تتفوق على عقدة الخوف في نفسك من تلك الأشياء الأخرى، التي قد تؤثر عليك وتحول بينك وبين ذلك العمل، أو تحمل تلك المسؤولية، الرغبة والأمل والطمع كذلك، أحيانًا يحتاج الأمر إذا كنت في سبيل موقفٍ معين ستضحي بمصلحة معينة، هذا أمر يؤثر على الكثير من الناس، يحتاج إلى أن يكون أملك في الله، ورجاؤك فيما عند الله يفوق أطماعك الأخرى، واتجاهاتك وميولك الأخرى إلى مصلحة هنا أو مصلحة هناك؛ لأنك في واقعك الإيماني منشد إلى مصلحة أكبر وأعظم وأبقى عند الله -سبحانه وتعالى- حتى انشدادك إلى الله في الحالة الإيمانية والنفسية والوجدانية، في تعظيمك لله -سبحانه وتعالى- وإجلالك لله، وتكبيرك لله -سبحانه وتعالى- يجعلك منشدًا إلى الله فوق كل شيء.
فالأعمال التي قد تحتاج: إما إلى كلفة مالية، أو تضحية بمصالح معينة: (مادية، أو منصب، أو أي شيء من هذا القبيل)، أو مواجهة تحديات وأخطار: إما على النفس، وإما على المال، وإما على المنزل، وإما على أي شيء مما هو غالٍ لدى هذا الإنسان، وعزيز على هذا الإنسان. هنا المحك، هنا يتبين واقع الإنسان، هنا تتجلى حقيقة ما عليه من قيم وأخلاق، هل يمتلك فعلًا الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- الذي يستطيع من خلاله، وبهداية الله، وبمعونة الله، وبتوفيق الله… أن يتغلب على تلك المؤثرات عليه، إذا كان- مثلًا– سيضحي بمصلحة من هذه الدنيا: مال، أو جاه، أو منصب… في سبيل ثباته على موقف الحق، في سبيل نهوضه بمسؤولية معينة، هل يمتلك من الإيمان ما يجعله يتغلب على هذا العامل المؤثر، وهو: خوف فوات تلك المصلحة، إذا كان سيتعرض للخطر في مقابل ثباته على هذا الموقف، هل خوفه من الله ومحبته لله ستدفعه إلى أن يثبت لو حصل ما حصل، مع احتمال تعرض حياته، أو ممتلكاته، أو شيءٍ مهم لديه للخطر، هل سيثبت؟
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
محاضرة السيد الثانية بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام للعام 1440هـ-