كانت الظروف التي تحرك فيها الإمام زيد بن علي (عليه السلام) هي ظروف صعبة، ظروف كانت الدولة الأموية في أوج قوتها مسيطرة على كل العالم الإسلامي في ظل واقع قائم على الخضوع والخنوع والاستسلام، لا أحد يصدع بالحق ولا أحد يتكلم ولا أحد يعارض. يعمل الولاة الأمويون تحت قيادة الملك الأموي المستبد ما يشاؤون، ويفعلون ما يريدون، والجميع غارق في الصمت، والكل يعيشون حالة الاستسلام للأمر الواقع، فكل ما نقضوه من عرى الإسلام، وكل ما طمسوه من معالم الإسلام، وكل ما أوغلوا في عباد الله فساداً؛ الكل لا يعترض ولا يحتج ولا ينتقد ولا يجرؤ على أن يكون له موقف، حالة الذل وحالة الخضوع والاستسلام هي الحالة المسيطرة على الأمة بكلها.
كل الفئات التي يمكن أن يراهن عليها المجتمع لأن يكون لها موقف إيجابي أو تسعى للتغيير أو تعمل لإصلاح الواقع كلها صامتة جامدة.
طبقة العلماء والمثقفون والعباد الكل صامتون والكل ساكتون وحالة رهيبة من الذل والخوف والفزع وحالة طاغية من الهيمنة الكبيرة والسيطرة التامة على واقع الأمة. قبضة حديدية على الواقع وهيمنة واستبداد وقمع وإذلال جعل الكل في حالة استسلام تام وعجز واضح.
لقد كانت الأوضاع في زمنه (عليه السلام) متردية إلى أبعد الحدود؛ فالفساد مستشري في كل المجالات ووصل الحال إلى درجة الإساءة إلى المقدسات وعلى رأسها القرآن الكريم ورسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) أما لعن الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين فقد صارت سنة يجهر بها من على منابر الجمعة.
وقد شخص الإمام زيد عليه السلام تلك الوضعية المتردية في دعاء لخَّص فيه ما تعيشه أمة جده من الظلم والقهر وضياع الحق، وتطلُّعه إلى تغيير هذا الواقع بقوله:
«اللَهُمَّ وقد شَمَلَنا زَيْغُ الفتنِ، واستولت علينا غَشْوَةُ الحَيْرَةِ، وقَارَعَنَا الذلُّ والصَّغَارُ، وحكم علينا غيرُ المأمونين على دِينِك، وابْتَزَّ أمورَنَا من نَقَّصَ حكمَك وسعى في إتلافِ عبادِك، وعَادَ فَـيُّنا دُوْلَةً، وإمَامَتُنَا غَلَبَةً، وعَهْدُنَا مِيراثاً بين الفَسَقَةِ، واشْتُرِيَتِ الملاهي بِسَهْمِ اليتيم والأرْمَلةِ، ورَتَعَ في مال اللّه من لا يَرْعَى له حُرْمَةً، وحكم في أَبْشَار المؤمنين أهلُ الذِّمة، وتولى القيامَ به فاسقُ كلِّ مَحَلَّةٍ، فلا ذائدٌ يذودهم عن هَلَكَةٍ، ولا رادعٌ يردعهم عن إرادتهم المَظْلِمَةِ، ولا رَاعٍ ينظرُ إليهم بِعَيْنِ الرَّحمْة، ولا ذو شفقة يشفي ذاتَ الكبدِ الحَرَّاء من مَسْغَبَةٍ، فهم هؤلاء صَرْعَى ضَيْعَةٍ، وأسرى مَسْكَنَةٍ، وحُلَفَاء كآبةٍ وذِلَّةٍ.
اللَهُمَّ وقد اسْتَحْصَدَ زرعُ الباطلِ وبلغ نهايَتَه، واستغلظ عَمُودُهُ وخَرِفَ وليدُه، واستجمع طريدُه، وضَرَبَ بجِرَانِه. اللَهُمَّ فأتح له مِن الحَقِّ يداً حاصِدَةً تَصْرَعُ بها قائمَهُ، وتُهَشِّمُ سُوْقَهُ، وتَجُتُّ سَنَامَه، وتَجْدَعُ مُرْغَمَه. اللَهُمَّ ولا تَدَعْ لَهُ دعَامَةً إلا قَصَمْتَهَا، ولا جُنَّةً إلا هَتَكْتَهَا، ولا كلمةً مجتمعةً إلا فرقتَها، ولا سَرِيَّة تعلو إلا خَفَقْتَها، ولا قائمةَ عَلَمٍ إلا خَفَضْتَهَا، ولا فائدةً إلا أبدتها.
اللَهُمَّ وكَوِّر شَمْسَه، وحُطّ نورَه، وادْمَغ بالحق رأسَه، وفُضّ جُيُوشَهُ، وأذْعِرْ قُلُوبَ أهله.
اللَهُمَّ لاتَدَعَنَّ منه بقيةً إلا أفنيتَ، ولا نَبْوَةً إلا سَوَّيْتَ، ولا حَلْقَةً إلا أكلَلْتَ، ولاحَدّاً إلا فَلَلْتَ، ولا كراعاً إلا اجتحتَ، ولا حاملَ عَلَمٍ إلا نكستَ. اللَهُمَّ وأرنا أنصاره بَعَائِدَ بَعْدَ الإلْفَةِ، وشَتَّى بعد اجتماع الكَلِمَةِ، ومُقْنِعِي الرؤوس بعد الظُّهور على الأمَّة.
اللَهُمَّ وأسْفِرْ عَنْ نَهَارِ العَدْلِ، وأرناهُ سَرْمَداً لا ليلَ فيهِ، وأهْطِل علينا نَاشِئَتَهُ، وأدِلْه ممن ناواه.
اللَهُمَّ وأحيي به القلوبَ الميِّتة، واجمع به الأهواءَ المختلفةَ، وأقمْ به الحدودَ المُعَطَّلة، والأحكامَ المُهْمَلَةَ، واشبع به الخِمَاصَ السَّاغِبَةَ، وأرحْ به الأبدان اللاَّغِبَةَ من ذرية محمد نبيك صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأشياعهم، وأنصارهم، ومحبيهم، وعَجِّل فَرَجَهُم وانْتِيَاشَهُم، بقدرتك ورحمتك يارب العالمين».
ومن مواعظه التي كان يتحدث فيها عن وضعية الأمة قوله:
وقديماً اتخذت الجبابرة دين اللّه دغلا، وعباده خولا، وماله دُولا، فاستحلوا الخمر بالنبيذ، والمكس بالزكاة، والسحت بالهدية، يجبونها من سخط اللّه، وينفقونها في معاصي اللّه، ووجدوا على ذلك من خونة أهل العلم والتجار والزراع والصناع والمستأكلين بالدين أعواناً، فبتلك الأعوان خَطَبَتْ أئمة الجور على المنابر، وبتلك الأعوان قامت راية الفسق في العشاير، وبتلك الأعوان أخيف العالم فلا ينطق، ولا يتَّعظ لذلك الجاهل فيسأل، وبتلك الأعوان مشى المؤمن في طبقاتهم بالتَّقية والكتمان، فهو كاليتيم المفرد يستذله من لا يتق اللّه سبحانه».
وفي ظل هذا الواقع المتردي كان صوت الإمام زيد هو الصوت السابق الأول الذي كسر ذلك الواقع، وحطم تلك القيود التي كبلت الأمة وأذلتها؛ تحرك بحركة متميزة بمنهجية القرآن الكريم والثقة العالية بالله سبحانه وتعالى وهو القائل (عليه السلام) وقد تحدث إلى جابر الجعفي، أحد أصحابه، يا جابر: «لا يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله وتحوكم إلى الجبت والطاغوت لا يسعني أن أسكت».
وكان يقول: والله لو علمت عملاً هو أرضى لله تعالى من هذا الذي وضعت يدي فيه لفعلته ولأتيته، لكني والله لا أعلم عملا هو أرضى من قتال أهل الشام.