ربيع النقيب
لأن الصمت خيانة، ولأن التعايش مع الإهانة سقوطٌ أخلاقي، ولأن ما جرى من إساءة سافرة للقرآن الكريم على يد نائبٍ أمريكي ليس فعلًا فرديًّا معزولًا، بل حلقةٌ مكشوفة في سلسلة عدوانٍ ثقافي وسياسي يستهدف هذه الأُمَّــة في عقيدتها ووعيها قبل أرضها وثرواتها.
إنهم لا يسيئون لكتابٍ مقدَّس فحسب، بل يعلنون حربًا رمزية على هُــويةٍ كاملة، ويختبرون منسوب الذل فينا: هل نغضب أم نبتلع الإهانة؟
الغضب هنا ليس انفعالًا عابرًا، بل فريضة وعي وموقف جهادي أخلاقي.
الجهاد ليس بندقية فقط، بل هو موقفٌ، ومقاطعةٌ، وكلمة، واصطفافٌ واضح مع الحق وضد الاستكبار.
ومن يُسيء للقرآن في عاصمة القرار الأمريكي يفعل ذلك مطمئنًا إلى منظومةٍ كاملة من الحماية السياسية والإعلامية، وإلى أنظمة عربية مطبِّعة وفاقدة للسيادة، جعلت من نفسها دروعًا رخيصة للمشروع الأمريكي–الصهيوني.
وتتجلى الفضيحة الكبرى في ازدواجية المعايير الصارخة التي تحكم الخطاب الغربي؛ فالإساءة للقرآن تُقدَّم؛ باعتبَارها "حرية تعبير"، ويُطلب من المسلمين ضبط النفس والتعايش مع الإهانة.
أما حين يتعلّق الأمر بما يُسمّى "معاداة السامية"، فَــإنَّ الخطوط الحمراء تُرسم فورًا، وتُفعَّل القوانين، وتُغلَق المنابر، ويُلاحَق كُـلّ من يقترب من الرواية الصهيونية ولو بنقدٍ سياسي.
هكذا تُقدَّس مقدسات وتُستباح أُخرى، ويُقسَّم البشر إلى مَن تُحترم مشاعرهم ومَن يُطلب منهم الاعتياد على الإذلال.
إن هذه الازدواجية ليست خللًا عابرًا، بل سياسة مقصودة تُدار بها معركة الوعي.
فحين يُسمح بحرق المصحف ويُجرَّم التشكيك في جرائم الاحتلال، نكون أمام نظامٍ عالمي يريد إعادة تعريف المقدس وفق ميزان القوة لا وفق القيم.
ومن يقبل بهذه المعادلة اليوم، سيُفرض عليه غدًا قبول ما هو أخطر.
وتقع مسؤولية مضاعفة على الأنظمة العربية المطبِّعة التي وفّرت الغطاء السياسي لهذا الانحراف؛ فحين تُصافح هذه الأنظمة قتلة الأطفال وتفتح أسواقها لشركات العدوّ، فَــإنَّها تبعث برسالة مفادها أن الأُمَّــة بلا موقف.
هؤلاء الحكام لم يخذلوا فلسطين وحدها، بل خانوا القرآن وساهموا في "تطبيع الإهانة" قبل تطبيع العلاقات.
وهنا تكمن الخطورة الكبرى: سياسة التعود على الإساءة.
فالعدوّ يراهن على التكرار لتحويل الجريمة إلى خبرٍ عابر ثم إلى "حقٍّ مكتسب".
التعود أخطر من الإهانة نفسها؛ لأَنَّه يقتل الغضب ويحوّل الأُمَّــة من صاحبة حق إلى متلقٍّ سلبي.
مَن يتعوّد على إهانة مقدساته اليوم، سيتعوّد غدًا على احتلال أرضه وسرقة ثرواته.
إن الغضب المطلوب اليوم هو غضبٌ موجَّه وواعٍ، يترجم إلى أفعال تضرب مصالح العدوّ وحماته، وفي مقدمتها المقاطعة الاقتصادية بوصفها سلاحًا فعالًا ومؤلمًا.
المقاطعة ليست خيارًا ثانويًّا، بل معركة استنزاف حقيقية؛ فكل دولار يُدفع لشركات أمريكية أَو صهيونية هو رصاصة في صدر طفل فلسطيني.
المقاطعة تعني سحب الشرعية الشعبيّة من اقتصاد الهيمنة، وتحويل الغضب إلى ضغطٍ يومي مُستمرّ.
هي سلاح الشعوب حين تُغلق الأنظمة أبواب الفعل السياسي، وقد أثبت التاريخ أن الإمبراطوريات تخشى وعي الشعوب حين يتحول إلى سلوكٍ اقتصادي منظّم.
نغضب؛ لأَنَّ أمريكا التي تحمي الإساءة للقرآن هي ذاتها التي تحمي مجازر غزة وتحاصر اليمن.
نغضب لأن الصهيونية العالمية لا تكتفي باحتلال الأرض، بل تريد احتلال "المعنى" وتجريد الأُمَّــة من ثوابتها.
لكن غضبنا ليس فوضى؛ هو غضبٌ يبني ويعبّئ، يفضح الازدواجية ويسمّي الأشياء بأسمائها، ويعيد تعريف العدوّ والصديق بلا مواربة.
نغضب؛ لأَنَّ القرآنَ هو خط المواجهة الأول، ومَن لا يغضب لقرآنه اليوم، سيتنازل عن كرامته غدًا.
غضبنا الواعي والمنظّم هو بداية الطريق لكسر الهيمنة واستعادة الأُمَّــة لمكانتها.

.png)




.jpg)
.png)