مـرحبـا بكم في موقع دائرة الثقـافـة القـرآنيــة

بالمكتب التنفيذي لأنصار الله

وعندما هاجر النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- إلى يثرب، إلى المدينة، إلى المجتمع الذي رحَّب بهذه الرسالة الإلهية، ودخل فيها، وتحرك لنصرتها، وحظي ذلك المجتمع المشكل من الأوس والخزرج باسمٍ عظيمٍ من الله “سبحانه وتعالى”، يعتبر وسام شرفٍ كبير جدًّا، لقد سمَّاهم الله بالأنصار، هذا اسم من الله.

 

في أيام معاوية حاول معاوية أن يلغي هذا الاسم عنهم، فكانوا مستعدين للثورة والقتال، ولا أن يلغى عنهم هذا الاسم، هذا الاسم ارتبط بقيامهم بهذا الدور في نصرة النبي -صلوات الله عليه وعلى آله-، ونصرة الإسلام، فسمَّاهم الله في كتابه الكريم بالأنصار.

 

الأنصار امتازوا عن مجتمع مكة الذي كان مجتمعاً مادياً، وكان مجتمعاً معجباً بالطغاة والظالمين والجائرين والمستكبرين، ففشل ولم يتأهل لنيل هذا الشرف الكبير، ولم يخرج منه إلا القليل، ممن كانوا أخياراً ومسلمين، وانطلقوا في صف الرسالة الإسلامية في مراحلها تلك، لكن مجتمع الأنصار امتاز بمميزات مهمة، تمثِّل دروساً ينبغي أن يحرص مجتمعنا الإسلامي على الاستفادة منها في كل مرحلة وفي كل زمن.

 

الله “سبحانه وتعالى” جمع هذه المميزات الراقية والعظيمة في آيةٍ مباركة، عادةً ما نتحدث عنها في كل مناسبة من هذه المناسبات عندما نتحدث أو نلقي كلمة، يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر: الآية 9]، هذه المواصفات المهمة والعظيمة هي مواصفات لم تقدَّم على أساس أن تكون حصرية لمرحلة زمنية معينة، للأنصار في زمن النبي -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، إنها المواصفات التي يحتاج إليها مجتمعنا الإسلامي في كل زمن وفي كل مكان؛ لكي يكون مؤهلاً لحمل هذه الرسالة الإلهية، وملتزماً بها، وحاملاً لرايتها، ولكي تتحقق له نفس النتائج التي تحققت لذلك الجيل الذي حمل هذه المواصفات، فارتقى من خلالها إلى مستوىً عظيم، أهَّله للقيام بدورٍ تاريخيٍ كبير، بني عليه التحولات الكبرى في المجتمع الإنساني.

 

الأمة إذا أرادت أن تعود إلى الصدارة في الواقع البشري بكله، الأمة إذا أرادت أن تكون هي المؤثرة لا المتأثرة، والمؤثرة من هذا الموقع: من موقع أمةً خيِّرةً، مؤمنةً تقيةً، أمةً تلتزم بالقيم الإلهية العظيمة، الأمة إذا أرادت ليس فقط أن تكون مستقلة، بل أكثر من ذلك: أن تكون مع استقلالها هي المؤهلة لقيادة المجتمع البشري كافة، فعليها أن تلتفت إلى هذه المواصفات العظيمة والمهمة جدًّا، وهي مواصفات مشرِّفة، وقابلة للتطبيق والتحلي بها في واقع الناس.

 

نأتي إلى هذه المواصفات المهمة جدًّا، في قوله “سبحانه وتعالى”:

 

– {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}: من قبل المهاجرين الذين هاجروا من مكة ومن مناطق أخرى إلى المدينة، {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ}؛ لأنهم سكنوا في يثرب منذ مدة طويلة، الحال يختلف عنهم وعن غيرهم من بقية المهاجرين، هم في الأساس هاجروا منذ مدة طويلة إلى ذلك الموقع، إلى تلك المنطقة، واستقروا فيها، تحكي السِّير والأخبار أنهم استقروا منذ زمن تُبَّع، وأنه أرادهم هناك؛ لانتظار هذا النبي الموعود في آخر الزمان -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله-، ولكن الآية المباركة تذكر إضافةً إلى عبارة: (الدَّارَ: وَالْإِيمَانَ)، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}، وهذا يلفت نظرنا إلى مدى التحلي والالتزام بالمبادئ والقيم الإيمانية التي بلغوا فيها إلى هذه المرتبة، وكأنها سكنت فيهم وسكنوا فيها، الإيمان هو العنوان المهم جدًّا والراقي والعظيم الذي تشرُف به الأمة، وترتقي به الأمة، وتعلو به الراية، والذي يغيِّر واقع الحياة بكله، والذي يجعل الأمة في الموقع المتقدِّم، والذي يساعد على حلّ الكثير من المشاكل التي تعثر بها الأمة، وتسقط بها الأمة، وتضيع بها الأمة، يضع الأمة في الاتجاه الصحيح والسوي، يترك أثره على المستوى الروحي، على المستوى الأخلاقي، على المستوى القيمي، على المستوى السلوكي، على مستوى المواقف، الإيمان حالة حاكمة، تحكم في الإنسان كل تصرفاته، كل مواقفه، حتى في روحيته، حتى في سلوكياته، حتى في مواقفه، بمعيار التوجيهات الإلهية، هذا هو الإيمان، وهذا هو الذي يرتقي بالإنسان، يسمو بالإنسان، يشرف بالإنسان، ويعظم به الإنسان، هذا هو الذي يجعل من الإنسان إنساناً لا يبقى كالأنعام أو أضل من الأنعام، يسمو بالإنسان، فيأتي العنوان الإيماني هو العنوان الجامع، والعنوان الرئيسي، والعنوان الأساس، {تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ}.

 

– ثم نجد من آثار هذا الإيمان صفات راقية جدًّا، جذَّابة للغاية، تعبِّر عن هذه الروحية العالية، هذه الروحية الإيجابية جدًّا، في قوله “سبحانه وتعالى”: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، نفوس سالمة من الأنانية، من الأحقاد، لديها قابلية لأن تحتضن الجميع، وأن تألف الجميع، وأن تنسجم مع الجميع، الإنسان لا يمكن أن يكون قابلاً لأن ينصهر ضمن أمة، يذوب ضمن أمة، يندمج ضمن أمة، تجتمع على مبادئ عظيمة، وعلى قيمٍ عظيمة، وعلى تعليماتٍ عظيمة مصدرها الله “سبحانه وتعالى”، إلَّا إذا تخلَّص من الأنانية، إذا كان الإنسان أنانياً فبقدر ما يكون أنانياً توجد هذه الحواجز والعوائق، وتنتج عنها الكثير من المشاكل الداخلية التي تمثل عوائق عن الأخوة، عن التعاون، عن التآلف، عن تكوين الأمة الواحدة.

 

هذا المجتمع لم يكن فقط دوره ينحصر بأن يحاول أن يستحوذ على النهوض بهذا الدور، بل يكون نواةً لأمةٍ تتسع دائرتها، هو داخلها النواة، هو داخلها البيئة الحاضنة، والأرضية الصلبة التي تستقبل هذه الدائرة فتتسع أكثر وأكثر حتى تكون أمةً كبيرة وأمةً عظيمة، هذا درسٌ لأمتنا اليوم، ما أكثر الأنانيات، ما أكثر الحساسيات، ما أكثر سفاسف الأمور التي يمكن أن تضرب أخوةً بين مجتمع ومجتمعٍ آخر، كانت الحالة الصحيحة لهم أن يكونوا متآلفين، متعاونين، مجتمعين، متوحدين؛ لأنهم ينتمون إلى هذا الإسلام العظيم، إلى مبادئه وأخلاقه وقيمه وتعاليمه التي تجمع ولا تفرق، والتي توحد ولا تبعث على التشظي، والتي أيضاً تقوى بالأمة، تؤسس لأرقى حالة يترتب عليها: التعاون، والوئام، والإخاء، والتفاهم، والتعاضد، والتناصر، تهيئ لبيئةٍ يمكن أن تبتني فيها الأمة كالبنيان المرصوص، وأن تكون فيها كالجسد الواحد، كانوا هم في تلك المرحلة بهذه المواصفات الراقية: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، لديهم هذه القابلية لأن يكونوا نواة تنسجم مع الآخرين، لديها قابلية عالية لأن تكون نواة تتسع دائرتها؛ لأنها تحب الآخرين، وتقبل بهم ممن يأتون للانضمام إلى هذا الدين العظيم، إلى هذه الرسالة العظيمة، فكانوا {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، ينسجمون معه، يتفاهمون معه، يؤاخونه، فاتسعت دائرة هذه النواة العظيمة.

 

{وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا}، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}: ليس عندهم أي حساسية أبداً تجاه ما يمكن أن يحصل عليه هذا الذي هاجر إليهم، هم يحبون الخير لهؤلاء الذين يهاجرون إليهم، لا يتحسس، لا يتعقد، لا يشعر بالحسد والغيرة أنَّ هذا حصل على شيء، أو أعطي شيئاً، أو ناله شيء من الخير، |لا|، بل أكثر من ذلك، كما قال عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، وهذه ميزة راقية جدًّا، إذا وصلت الأمة، إذا وصل أي مجتمع من المجتمعات إلى هذه الروحية العالية جدًّا، وهي ذات قيمة في الميزان الأخلاقي والميزان القيمي: أن يُؤْثِروا على أنفسهم، فمعنى هذا: أنهم يريدون الخير للآخرين، أنهم يحملون نفوساً كريمة، نفوساً معطاءة، نفوساً يمكن أن تقدِّم أي شيء في سبيل الله “سبحانه وتعالى”، وفي سبيل أن ينتصر هذا الحق، أن تنتصر هذه الرسالة، أن يسود هذا الدين، ونفوساً كريمة معطاءة، إلى هذا المستوى من العطاء: أنه يمكن ليس فقط أن تقدِّم مما في وسعها أن تقدِّمه، بل أن تُؤْثر.

البعض من الناس يبخل حتى في مستوى أن يقدِّم من سعته، وليس أن يُؤْثِر على نفسه، أن ينفق مما آتاه الله، أن يواسي من فضل ما معه، قد يبخل بذلك، البعض من الناس لا يفكر إلَّا في أن يأخذ، بل إذا كان له سابقة، أو عمل عملاً إيجابياً، أو قام بدورٍ إيجابي، فهو يجلس يفكر كم يصنف لنفسه، كم يقدِّر لنفسه من استحقاقات في مقابل ما قد عمل، [أنا عملت، أنا ساهمت، أنا فعلت كذا، وأنا عملت كذا، كان لي دور في كذا، أريد في المقابل أن تعطوني كذا، وأن أحصل على كذا، وأن آخذ كذا…]، ويكون في واقعه: إما يسعى لتحقيق هذه المطالب وهذه الرغبات، يحمل هذه الروحية، تسيطر عليه هذه الروحية: روحية الأخذ دائماً وليس العطاء، أو إذا أراد أن يقدم شيئاً، ففي مقابله أشياء كثيرة جدًّا.

 

هؤلاء لم يكونوا يحملون هذا التفكير: تفكير حسابات الأخذ، والمكاسب، والأطماع… وما شاكل ذلك، بل كانوا يحملون هذه الروحية الراقية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، روحية العطاء والبذل والتقدمة والتضحية؛ لأنهم يدركون عظمة هذه الرسالة، ولأنهم يدركون أنهم مهما قدَّموا، مهما كانت التضحيات، فليسوا خاسرين، وليسوا خائبين، هي روحية في البذل والعطاء والتضحية واعية، تعي عظمة هذه الرسالة الإلهية، وقيمة وأهمية ما يقدِّمه الإنسان في سبيلها من جانب، وما يمكن أن تحصل عليه في المقابل، ليس من الناس، ليس وفق اشتراطات، ليس وفق تمننٍ على الآخرين بما قدمت، بل من الله العظيم الكريم الرحيم، وما يمكن أن يعطيك إياه في الدنيا والآخرة.

 

{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، عندما يكون مجتمعٌ بهذه الروحية يُؤْثِر على نفسه؛ سيكون مجتمعاً جديراً بحمل هذا المشروع الإلهي، وجديراً بالنصر والتمكين، {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}، وهذه ميزة كبيرة جدًّا، البعض قد يعطي إذا كانت ظروفه متيسرة، البعض من الناس قد يصل إلى درجة أن يُؤْثِر على نفسه، لكن إذا كانت الظروف لا بأس، يستطيع أن يَجبُر هذه الخلة بشكلٍ سريعٍ ومباشر؛ أما هم فهم يؤثرون على أنفسهم حتى في الظروف الصعبة.

 

{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إذا تخلَّصت الأمة من الشح- الأنانية هي نتاج الشح- فيمكن أن تكون مفلحةً، والأمة المفلحة هي التي تظفر، تتحقق الأهداف من خلالها، تتحقق النتائج بجهودها وتضحياتها؛ لأنها بهذه المواصفات المهمة ستكون أمةً عملية، متحررة من قيود الخوف، ومن قيود الطمع، والأمة إذا تحررت من قيود الخوف ومن قيود الطمع كانت أمةً صابرة، قوية، متجلدة، متحملة، تحمل هذا المشروع، ويمنحها الله “سبحانه وتعالى” منه العون والتوفيق والنصر والتأييد، وتواجه كل التحديات والصعوبات مهما كانت؛ لأنها تعتمد على الله أولاً، ولأنها تلتزم في واقعها العملي بقيم عظيمة، قيم تكفل النجاح لمن يتحلى بها، تعليمات تضمن الفلاح والنصر لمن يلتزم بها.

[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]

دروس من هدي القرآن الكريم

ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي

بمناسبة الهجرة النبوية 1442هـ


  • نبذة عن المسيرة القرآنية

    المسيرة القرآنية : هي التسمية الشاملة لهذا المشروع القرآني, وهي التوصيف الذي يعرِّف به تعريفًا كامًلاً , فعندما نعبر عن طبيعة المشروع القرآني الذي نتحرك على أساسه نحن نقول: المسيرة القرآنية.. وهي تسمية من موقع المشروع الذي نتحرك على أساسه.

    فالمسيرة القرآنية توصيف مرتبط بالمشروع القرآني وهي التسمية الشاملة والأساسية لهذا المشروع

    وهذه المسيرة العظيمة تقوم على ....

    اقراء المزيد...
  • تابعنا على مواقع التواصل

    • تابعون على التيلجرام
    • تابعونا على تويتر
    • تابعون على اليوتيوب
    • تابعونا على الفيس بوك
تصميم وبرمجة : حميد محمد عبدالقادر