تعاظمت الانحرافاتُ والخرافاتُ في واقع البشريّةِ حتى طُمِسَت معالم الحق، وامتلأت الدنيا ظلمًا، وَسَادَها الشِّرْكُ والجهل، وانْتَشَرَتِ الرذائل وارتُكِبَتِ المآثم، وأَطْبَقَتْ على الأرض ظلماتُ الجهلِ والضلالِ والمفاسدِ والتظالم.
كان الوضع على مستوى العالم عمومًا وعلى مستوى العرب خصوصًا وضعًا مشينًا، حالة ضلال رهيبة، وحالة ضياع، حالة فرقة، حالة هوان، اختلاف، تناحر، وتشتت.
قبل مبعث الرسول ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› كان العالَم بكله في شتى أنحاء الأرض يعيش جاهلية جهلاء تعاظم فيها الضلال واشتد العمى وطغت الحيرة والتيه واستحكمت فيها هيمنة القوى المستكبرة بقوتها وجبروتها، تُضل وتَظلم وتضاءلت في الأرض دائرة النور وأطبق عليها الظلام ظلام الجهل بالحق والحقيقة وظلام الخرافة وظلام الباطل وظلام الفساد، وامتلأت ظلماً وجوراً وعدواناً، وفقدت البشرية الوعي بهدف وجودها المقدس ومسؤوليتها في الحياة، وأصبح الإنسان تائهاً لا يعي دوره ولا يحمل من اهتمام إلا أن يأكل ليعيش، وأن يعيش ليأكل كالأنعام السائمة، وتمكن المجرمون والمستكبرون المتسلطون الجائرون أن يجعلوا من الخرافة عقيدة ومن الانحراف والفساد سلوكاً، ومن الجهالات والأباطيل عادات وتقاليد، وحرموا حلال الله وأحلوا حرامه، وأشركوا به، وتحولت كل تلك الخرافات والمفاسد والجهالات إلى معتقدات يقدسونها ويدينون بها ويتشبثون بها أشد تشبث، وعادات يتعصبون لها تطبعت عليها أجيال، يموت عليها جيل ويحيا عليها جيل آخر.
وطغت على حياة الناس واستحكمت وتمكنت حتى أصبحت مسلَّمات وثوابت مع كل ما ترتب عليها ونشأ من خلالها من نتائج سيئة في واقع الحياة من عناء وشقاء وقهر وظلم، وشتات وفرقة، وتناحر ونزاع وبؤس وضعة.
ومعالم رسالة الله تعالى في الأنبياء والرسل السابقين انمحت معالمها في منتسبيها فأضاعت اليهود معالم رسالة الله تعالى إلى موسى وأنبياء بني إسرائيل، وأضاعت النصارى ميراث عيسى من الهدى والأخلاق، ولم يتبقَ للجميع إلا طقوس وشكليات مفرغة من كل معنى، وفاقدة لأي تأثير، وأصبحوا جزءاً من الواقع لا صالحين ولا مصلحين، بل منحرفين ومحرفين، ضالين ومضلين، فاسدين ومفسدين، وحولوا كتب الله إلى قراطيس يبدونها ويخفون كثيراً منها، وحولوها إلى عبارات مكتوبة معطلة عن التنفيذ، وموقفة عن الاهتداء بها والعمل بما فيها، وحرفوها سعيا منهم إلى تحويلها إلى وسائل للتضليل بها والافتراء على الله الكذب باسمها، فضلوا وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
من كتاب "مع الرسول والرسالة" للأستاذ يحيى قاسم أبو عواضه