وهذا يجرنا إلى الحديث عن أشكال المساجد بشكلٍ عام؛ لأن هذا المسجد الحرام هو أعظم المساجد حرمةً وقدسيةً عند الله، فما بالك ببقية المساجد، المساجد بشكلٍ عام يمكن أن يستغلها الآخرون، يمكن أن يستغلها منافقون، ويمكن أن يستغلها ضالون مضلون، وأن يتظاهروا بعمارتها، وإحيائها وتفعيل دورها، ولكن ما يأتي منهم في ذلك من تضليل للناس هو أمرٌ خطيرٌ جداً، وهذا ما نبه عليه القرآن الكريم، نجد في سورة التوبة قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}[التوبة: الآية107]، لاحظوا كيف فعلوا دور المسجد في أربع كوارث: (ضِرَارًا، وَكُفْرًا، وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ)، فيمكن أن يأتي باسم الدين من يستخدم المسجد ليضارر به، ليجعل منه مسجداً يضر بأهل الحق، يؤثر سلباً في الناس لإبعادهم عن الحق، يسعى ليجعل من منبر المسجد، من طريقته في إحياء المسجد وسيلةً يعارض بها الحق وأهله، ووسيلة مخادعة للكثير من السذج والبسطاء من الناس ممن لا يمتلكون الوعي ولا الفهم الصحيح، فيذهبون إلى ذلك المسجد ويرتبطون بذلك القيم، وبذلك يبتعدون عن طريق الحق، وعن أهل الحق، وعن موقف الحق، وعن عمل الحق.
{وَكُفْرًا}، يمكن للمسجد أن يصدر كفراً، ولكنه ليس كفراً بالمفهوم السائد في ذهنية الناس، يعني: خروجاً عن الملة، لا، هناك مثل يقولون: [كافر مسبح]، كفر في العمل، كفر في الموقف، كفر في انعدام الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، كفراً يتمثل برفض توجيهات الله -سبحانه وتعالى- في أمور من أهم الأمور، ومسائل من أهم المسائل، وقضايا من أكبر القضايا، هذا من النوع الذي يقولون في المثل الشعبي: [كافر مسبح]، الكفر الذي يصدره مسجد؛ لأنه يتمثل برفض جزء من الدين، مثلاً: برفض الجهاد في سبيل الله، برفض الإنفاق في سبيل الله، برفض الموقف الحق ضد الطغاة المعتدين المتسلطين الظالمين الجبابرة، برفض جملة واسعة من هذه المسؤوليات المهمة في الدين، برفض الاعتصام بحبل الله جميعاً، وهكذا أشياء كثيرة، بهدم الإيمان فيما يعطيه من تأثير نفسي في الثقة بالله، والتوكل على الله -سبحانه وتعالى-.
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ}، يمكن أن يؤدي المسجد هذا النوع، أن يستخدم المسجد من أجل أن يفرق بين المؤمنين؛ حتى لا تجتمع كلمتهم في موقفٍ واحد، ولا يتجهون إلى حيث يمكن أن يكون اجتماعهم مفيداً مثمراً، يجتمعون لموقف معين، أحياناً بعض المساجد تؤدي دوراً عظيماً، اجتماع الناس فيها اجتماع على الهداية، لموقف الحق، لتعزيز موقفهم في طريق الحق.. إلخ. وهذا قد يأخذ البعض من الناس الذين لا يمتلكون الوعي الكافي ليذهبوا إليه، فلا يذهبون إلى حيث يستفيدون أكثر، ينتفعون أكثر، يهتدون أكثر، ويسعى إلى تفريقهم، حتى لا تبقى كلمتهم واحدة، وتوجههم واحداً.
هناك أيضاً كما قال: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}، (إِرْصَادًا): تهيئةً وإعداداً ودعماً ومساندةً، فيتحول المسجد إلى مسجد يهيأ لأعداء الأمة، يمهِّد لإعداء الأمة أن يسيطروا على الأمة، عملية أن يتحول المسجد إلى أن يقدم هذه الخدمة لأعداء الأمة من أكبر الجرائم على الإطلاق، لاحظوا في المسجد الذي يثبط، يخذل، الذي يميت ذكر الجهاد في سبيل الله والمسؤولية في العمل في سبيل الله، الذي يميت أي حديث لتوعية الأمة عن أعدائها وعن خطورتهم، هذا من المساجد الذي يهيئ الأمة، المسجد الذي يتبنى قيّمه، خطيبه، إمامه، القائم فيه، إلغاء وشطب المسؤوليات من الإسلام بكلها، وتدجين الأمة لأعدائها هو من المساجد التي تؤدي هذا الدور السلبي، وتستغل استغلالاً سيئاً للغاية؛ لأداء دورٍ يدجِّن الأمة لأعدائها.
{وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[التوبة: الآية107]، حصل هذا تاريخياً في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، ورسول الله موجود، وهم يستخدمون مساجد لهذا الدور التخريبي في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، بل أرادوا منه أن يفتتح المسجد؛ ليستغلوا افتتاحه للمسجد دعايةً لاستقطاب الناس للحضور إلى ذلك المسجد، والصلاة فيه، ودعوا رسول الله لافتتاحه، فماذا قال الله له؟ {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، نهى نبيه من أن يستفتح ذلك المسجد؛ لأنهم سيستغلون حتى افتتاحه لذلك المسجد دعايةً استقطابية لدفع الناس للصلاة فيه، ومرادهم من صلاة الناس فيه، أن يجعلوا من ذلك وسيلةً لتجميع الناس لهم؛ حتى يضلوهم، حتى يؤثروا عليهم، ولاحظ كيف كان النهي: {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا}، نهائياً، نهي شديد، تحذير شديد.
{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}، التقوى لاحظ كيف التقوى هناك وهنا هي عنوان أساس، وعنوان بارز؛ لأنها الثمرة المطلوبة، مطلوب أن يفعَّل المسجد بشكلٍ يحقق التقوى، يهيئ الظروف الملائمة لصناعة التقوى، للتزود بالتقوى، فيكون في واقع الحال محطةً لتزود التقوى، محطةً للهداية، محطةً للتذكير بالمسؤولية، وهذا مما يجب أن يكون لدى الناس وعيٌ عنه.
ثم يقول الله -جلَّ شأنه-: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً}[الأنفال: الآية35]، يعني: حسب التعبير في هذا الزمن ظاهرة صوتية، ضجيج لا قيمة له، كانت صلاتهم عند البيت ضجيج لا فائدة له، لا ثمرة له، لا نتيجة له، ضجة وصجة، وأصوات لا قيمة لها، ظواهر صوتية لا قيمة لها، لا تثمر تقوى، ليست مقبولةً عند الله -سبحانه وتعالى-، وشبهها بالمكاء، والمكاء هو صفير لطائر اسمه (المُكّاء) يصدر صفيراً، وشبهها بالتصدية، مثل التصفيق والضجة التي لا قيمة لها، فهكذا حال صلاتهم في أنها غير مقبولة، وأنها ليست إلا مجرد ظاهرة صوتية وضجيج لا قيمة له، وليست مقبولة.
{فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، أتاهم العذاب من بعد، كيف أتاهم؟ أتاهم العذاب في معركة بدر، وأتاهم العذاب فيما بعد في حروبهم مع رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- عندما نزل قول الله -سبحانه وتعالى-: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: من الآية14]، وعذاب آخر يعني، كم مصائب أتت لهم، كم عقوبات أتت لهم، الجدب، الشدة... عقوبات متنوعة، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
من محاضرة السيد القائد/ عبد الملك بدر الدين الحوثي / حفظه الله.
يوم الفرقان (8) قوى الشرك والإجرام والصد عن المسجد الحرام.
المحاضرة الرمضانية الخامسة والعشرون: 1441هـ 18-05-2020م.