عبد القوي السباعي
قدّم السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي -يحفظه الله- في خطابه بمناسبة عيد جمعة رجب، وثيقة وعي، وإعلان اصطفاف، وبرنامج استعداد في مرحلة تتسارع فيها الأحداث، وتتكشف فيها النوايا العدوانية لطاغوت العصر المتمثلة بقوى الهيمنة والاستكبار العالمية وأدواتها الإقليمية، وبلا مواربة.
ورأى أن أخطر ساحات الصراع اليوم هي ساحة الهُــوية والانتماء الإيماني؛ فالأعداء أدركوا أن السيطرة لا تبدأ بإسقاط العواصم، وإنما بإسقاط الوعي، وفصل الإنسان عن مرجعيته القرآنية، وتحويله إلى تابع منزوع الإرادَة، قابل للتوظيف في خدمة الطاغوت، وأن الحرب الناعمة تستهدف البوصلة الداخلية للأُمَّـة، وتعيد تشكيلها بما يخدم مشاريع الهيمنة والاحتلال.
هُنا قد يقاطعني أحدهم بالقول: لماذا لم يتطرق السيد القائد في خطاب عيد جمعة رجب، بالتسمية المباشرة على ما يجري في المحافظات اليمنية الجنوبية والشرقية الواقعة تحت الاحتلال، رغم أنها تشكّل أهم المحاور المتصدرة للساحة السياسية والإعلامية؟
أقول نعم، وسؤال في محلّه، وقراءة مهمّة، لكن الإجَابَة الدقيقة أن السيد القائد لم يتناول بشكلٍ مباشر أَو تفصيلي ما يجري في تلك المحافظات المحتلّة، لا سياسيًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، لا توصيفًا ولا تشخيصًا ميدانيًّا ولا تسمية صريحة للأحداث أَو الأطراف هناك، لكنها حضرت في خطابه بشكلٍ ضمني.
نعم، من يقرأ ما بين السطور، سيرى كيف حضر ملف المناطق المحتلّة ضمنيًّا؛ لأن السيد القائد دائمًا ما يتناول الإطار الكلّي للأُمَّـة، وفي هذا الإطار الذي يفسّر ما يجري في تلك المناطق، دون تخصيص جغرافي، من خلال الحديث عن الاختراق الأجنبي والهيمنة الأمريكية–الصهيونية، والتحذير من تفريغ المجتمعات من هُــويتها الإيمانية، وتوصيف الأنظمة والعملاء الذين يخضعون للطاغوت وينفذون مشاريعه.
ولأنّه خطاب مناسباتي، إيماني، استراتيجي، لا سياسي محلي تفصيلي؛ أراد السيد القائد تثبيت البُوصلة العقائدية العامة، لا فتح ملفات داخلية محدّدة، والتركيز كان على معركة الهُــوية والقرآن والانتماء بوصفها أصل كُـلّ الأزمات، بما فيها الاحتلال والارتهان في أي منطقة.؛ إذ لم يتناول مباشرةً ما يحدث جنوبًا وشرقًا، وإنما قام بتسليط الضوء الواعي، في تناول شامل للأسباب والمنهج الذي أنتج حالة الاحتلال والارتهان؛ وبالتالي تعمّد السيد القائد أن يؤسّس للوعي الذي يفضح ويقاوم ما يجري هناك.
وقد يأتي آخر يقول: لكنه لم يُفرد لذلك الصراع مساحة مستقلة، إلا أنني أجزم أنّ السيد القائد قدّم الإطار الكاشف لما تعيشه تلك المناطق المحتلّة: تفريغ للهُــوية، تغريب للثقافة، نهب للثروات، تدوير للنخب والكيانات الوظيفية التابعة، وربط للقرار الوطني بالأجنبي؛ كون الحديث عن التبعية، والاختراق، وتحويل المجتمعات إلى كيانات مدجّنة، ليس توصيفًا عامًّا، وإنما قراءة دقيقة لواقع يُدار خارج الإرادَة الوطنية الحرة، ويُراد له أن يكون نموذجًا للاستباحة الصامتة.
ولتتضح الصورة أكثر، وضع السيد معيارًا حاسمًا للسلاح والسلطة معًا؛ فالسلاح، حين يكون خاضعًا للأمريكي و"الإسرائيلي"، لا يحمي الأوطان، بل يهدمها من الداخل، ويضرب مثالًا فاضحًا بالنموذج السوري، حَيثُ تمتلك جماعات سلاحًا لا يُوجَّه نحو العدوّ الإسرائيلي، وإنما يُستخدم لإثارة الفتن، بينما يُمنع وجوده، حَيثُ يمكن أن يشكّل تهديدًا للعدو، وهنا يسقط القناع عن كُـلّ دعوات نزع السلاح التي لا تستهدف إلا تجريد الأُمَّــة من قدرتها على الدفاع عن نفسها ومقدساتها.
ليس هذا فحسب، بل وضرب أمثلة عالمية لا محلية، كفنزويلا، للدلالة على نمط واحد للنهب والسيطرة والاستغلال، وكل هذه العناوين تنطبق موضوعيًّا وبالواقع الملموس على ما يجري في المحافظات المحتلّة، لكن من دون ذكرها بالاسم.
ويكشف السيد القائد أن الأنظمة التي تدير تلك الأدوات المحلية تشتري أسلحة متطورة، لكنها تبقى مقيّدة التشغيل والتحكم بيد الأمريكي؛ فيتحول السلاح إلى ديكور سيادي، لا إلى أدَاة حماية، وأن مخازن السلاح تُملأ استعدادًا لجولات تصعيد قادمة لا شك فيها، وهذه ليست توقعات، وإنما معطيات ميدانية تستوجب يقظة دائمة، واستعدادًا روحيًّا وجهاديًّا عاليًا، وفهمًا عميقًا للمسؤولية.
وهُنا ينتقل من التحذير إلى التوجيه العملي؛ فالتحَرّك وفق منهج الله، إعداد مُستمرّ، أنشطة دائمة، وعي دؤوب، واستعداد لما هو قائم وما هو آت، في مقابل مشاريع العدوان، يقدّم صورة مغايرة تمامًا مقارنةً بواقع اليمن الحر الكريم، شعب يُعِدّ، ويبني، ويجهّز، ويدرّب، ويؤهّل.
وكل ذلك في إطار ما نحن عليه اليوم من توجّـه إيماني أصيل، تعبئة عامة، فعاليات شعبيّة، مسيرات مليونية، مواقف علمائية، أنشطة طلابية ونسوية، ووقفات قبلية مسلحة تعبّر عن العزة الإيمانية، بوصفها العمود الفقري للمجتمع اليمني، وكل الأرقام التي ذكرها السيد القائد في خطابه دليل وعي وحيوية مجتمع أدرك طبيعة المعركة، ورفض أن يكون متفرجًا.
كما يُعيد التذكير بأن العدوان الأمريكي السعوديّ الصهيوني على اليمن كان وما زال هدفه منع الإسناد لغزة، لكنه فشل، رغم كُـلّ ما استخدمه من قوة؛ فعمليات الإسناد استمرت حتى وقف إطلاق النار، ولن يتمكّن العدوّ الأمريكي الصهيوني وأدواته المتصهينة من إيقافها مستقبلًا.
وهُنا تتجلى خلاصة المشهد في خطاب جمعة رجب، بصيغته الكاملة؛ فالسلاح الذي بيد اليمن هو سلاح أُمَّـة متوكلة على الله، تنطلق انطلاقة قرآنية، وتتحَرّك من موقع المبدأ لا المصلحة، وأمة تستعد ولا تنتظر، أُمَّـة قرأت العدوّ جيِّدًا، وفهمت أن الهُــوية بلا استعداد ضعف، وأن السلاح بلا استقلال خيانة، وأن الصمت أمام الاستباحة بداية السقوط.
رسالة واضحة يقدّمها السيد القائد ويكرّرها مفادها: أن من يتحَرّك وفق منهج الله يحمي نفسه وأرضه وأمته، ومن يرتهن للطاغوت وقواه المستعرة يتحول إلى أدَاة في مشروع هدمها؛ فما عليك إلا أن تحدّد موقعَك في هذين الاتّجاهين.




.png)

.jpg)
