على الرغم من تصاعد المؤشرات الإيجابية للجهود المبذولة؛ مِن أجل معالجة الملف الإنساني والتهيئة لعملية السلام الشامل، لم يكن الموقفُ الأممي المعلَنُ على لسان المبعوث الأممي في إحاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن مبشِّراً بحدوث تغيير كبير في توجّـه الرعاة الدوليين للعدوان، إذ تضمنت الإحاطة مغالطات عديدة وإشارات إلى عُقَدٍ وعوائقَ جديدة قد تعرقل التقدم أَو تشجع العدوّ على المراوغة في المراحل القادمة، لكن ذلك لا ينفي أن صنعاء قد نجحت بشكل واضح في تثبيت موقفها على الطاولة وإجبار العدوّ على بدء التعاطي معه، وهذا النجاحُ يحكُمُ على أية مؤامرات أَو ألاعيب يبيِّتها العدوّ بالفشلِ مسبقًا؛ لأَنَّ صنعاءَ لا زال بإمْكَانها تثبيتُ المزيدِ من المعادلات وتضييق خيارات العدوّ بشكلٍ أكبرَ.
سلبيةٌ مُستمرّةٌ من جانب الأمم المتحدة ورعاة العدوان
الإحاطةُ التي قدّمها غروندبرغ من العاصمةِ صنعاءَ، قبل مغادرته، تناولت موضوعَ التهدئة بنفس الأُسلُـوب السطحي غير المحايد الذي تكرّر في العديد من الإحاطات السابقة، حَيثُ عمد المبعوث إلى استعراض الرحلات الجوية المحدودة التي تم السماح بتشغيلها خلال الفترة الماضية، وسفن الوقود التي دخلت بصعوبة بالغة؛ باعتبارها إنجازاتٍ كبيرةً، متجاهلاً حقيقة أن هذه الرحلات والسفن القليلة لم تغير شيئاً يذكر من واقع الحصار الإجرامي المفروض على البلد، وأن إنهاء القيود المفروضة على السفر وعلى وصول البضائع والسلع حق طبيعي وإنساني للشعب اليمني وليس “تنازلًا” سياسيًّا من جانب دول العدوان.
هذا التناوُلُ أوضح أن الأممَ المتحدة لم ترقَ بعدُ إلى المستوى المطلوب من الجدية والحيادية التي يتطلبها دور “الوسيط”، وهو أَيْـضاً ما أكّـده غروندبرغ عندما وجه الشكر للنظام السعوديّ على ما أسماه بـ”جهود حَـلّ النزاع”، فالسعوديّة لا يمكنها أن تكون، ولم تكن أبداً، وسيطةَ حَـلٍّ في اليمن؛ لأَنَّها الطرف الذي يتصدر واجهة تحالف العدوان، وبالتالي فَـإنَّ الأمم المتحدة كما يبدو لا زالت متمسكةً بتصور “الحرب الأهلية” الذي يعتبر أحدَ أبرز العوائق أمام السلام الفعلي!
حديثُ غروندبرغ عن مسألة التفاوض بين اليمنيين كان هو أَيْـضاً مؤشِّراً على استمرار تبني الأمم المتحدة لهذا التصور المغلوط؛ لأَنَّ هذا الحديث يمثل قفزاً على طبيعة المشهد الراهن وأولوية إنهاء العدوان والحصار والتدخلات الخارجية.
ومن ضمن المؤشرات السلبية التي احتوت عليها إحاطةُ غروندبرغ حديثُه عن صعوبةِ الفصل بين القضايا المطروحة على الطاولة، والذي بدا وكأنه محاولةٌ لشرعنة موقف تحالف العدوان ورعاته الدوليين الرافض لعزل الملف الإنساني عن الملفات الإنسانية والعسكرية، الأمر الذي يعتبر هو أَيْـضاً من العوائق الكبرى أمام أي تقدم في مسار السلام.
وقد عزز المبعوث الأممي هذا المؤشر بحديثه عن ضرورة “تجزئة” الحلول والرؤى، الأمر الذي قد يُمَثِّلُ غِطاءً للمماطلة والتهرُّب من الالتزامات العاجلة وخُصُوصاً فيما يتعلَّقُ بالمِلف الإنساني الذي لا يحتملُ التأخير.
هذه السلبيةُ في إحاطة المبعوث الأممي مثّلت دليلاً على أن الحلفاء والرعاة الدوليين لدول العدوان ما زالوا غير مستعدين للدفع نحو عملية سلام فعلية تنهي الحربَ وتضمن الحقوقَ، وهو أَيْـضاً ما ترجمته بوضوحٍ مواقفُ وكلماتُ مندوبي دول العدوان ورعاتها خلال جلسة مجلس الأمن.
وقد علّق مندوبُ روسيا على ذلك قائلاً إنه “لا يبدو أن الغربيين يريدون تسويةً شاملةً وطويلةَ الأمد في اليمن، ولكنهم يريدون فقط ضمانَ تصدير النفط اليمني إلى الأسواق العالمية، وهو نهجٌ انتهازي ضارٌّ بالسلام”.
هذه المواقفُ غيرُ المبشِّرة تعطي انطباعاً بأن السلامَ ما زال بعيدًا، لكن هذا لا يلغي إيجابيةَ المؤشرات الجديدة التي برزت خلال الأيّام الماضية مع زيارة الوفد العُماني إلى صنعاء وما رافقها وأعقبها من تحَرّكات، فـ”اضطرارُ” دول العدوان ورعاتها إلى البحث عن حلولٍ ولو بشكل أولي يظل أمرًا جيِّدًا حتى وإن كانوا لا يمتلكون الرغبةَ الحقيقية في السلام؛ لأَنَّهم يعلمون أن هذه الرغبةَ ستؤدي إلى مخاطرَ كُبرى، وبالنسبة لصنعاء فَـإنَّ المهم هو انتزاعُ حقوق الشعب اليمني سواءٌ أكانت دول العدوان ورعاتها راضين أَو مجبرين.
اللجنةُ العسكرية تحذّر من عواقبِ عدم الجدية
في مقابلِ التصريحات السلبية للمبعوث الأممي وممثلي دول العدوان ورعاتها في مجلس الأمن، سمع المستشارُ العسكري للمبعوث الأممي من اللجنة العسكرية والأمنية المعنية بالمفاوضات، الثلاثاء، تأكيداتٍ حاسمةً وواضحة على عدم القبول باستمرار المراوَغة والتعاطي السلبي مع متطلبات السلام.
ونقلت وكالةُ سبأ الرسمية عن رئيس اللجنة اللواء الركن يحيى عبد الله الرزامي تأكيدَه للمسؤول الأممي على ضرورةِ إنهاءِ خروقات العدوان المُستمرّة منذ انتهاء الهُــدنة، وتشديده على “حق الشعب اليمني في الاستفادة من ثروته وخيراته وضرورة دفع المرتبات ورفع الحصار”.
وَأَضَـافَ الرزامي أن “الجيشَ اليمني قادرٌ على انتزاع هذه الحقوق بالقوة إذَا لم يحكّم الطرفُ الآخرُ العقلَ، ويتعاطى بجدية مع جهود السلام”.
ونبَّه الرزامي إلى أن “صبرَ القيادة اليمنية قد ينفَــدُ في ظل المماطلة والاستهتار الدولي، وبالتالي لا بُـدَّ من إظهار النوايا الجادة بالدفع بعملية السلام وإجبار دول العدوان على إيقافِ عدوانها وخروقاتها وفتح الطرقات والمعابر والبدء الفعلي بمعاجلة المِلفات الإنسانية بشكل عاجل”.
هذه التأكيداتُ هي رسائلُ إضافيةٌ واضحة تفيد بأن إيجابية صنعاء وانفتاحها على جهود السلام ليست فرصةً مقدمة للعدو لكي يتهرب من التزاماته ويعيد ترتيبَ أوراقه، وبالتالي فَـإنَّ قراءةَ موقف صنعاء بشكل خاطئ قد يُعيدُ الأمورَ مرةً أُخرى إلى نقطة الصفر.
وهذه الرسائلُ تُعيدُ ضبطَ المشهد على إيقاع المعادلة الوطنية الثابتة للسلام والحرب والتي ينطلق منها موقفُ صنعاء التفاوضي، وخلاصةُ هذه المعادلة هي أن الضمانة الوحيدة لتجنب التصعيد والضربات العابرة للحدود هي تنفيذ كافة متطلبات السلام العادل بدءاً من إنهاءِ الحرب والحصار والاحتلال وُصُـولاً إلى تعويض الأضرار، وبالتالي فَـإنَّ كُـلَّ الحيل والألاعيب التي ما زال يحتفظُ بها تحالفُ العدوان ورعاتُه لن تقيِّدَ خياراتِ صنعاء إذَا لم تتم تلبيةُ مطالِبِ الشعبِ اليمني بالشكل المطلوب.
صحيفة المسيرة