{هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وكما قلنا في درس سابق أن مجموع اللفظتين تفيد المبالغة في أنه رحيم بعباده.
ولو تأملنا من خلال هدايته للناس، من خلال تشريعه للناس، من خلال تدبيره لشئون عباده، لشئون مملكته لوجدنا ما يبهرنا من مظاهر رحمته بنا، لوجدنا ما يبهرنا من مظاهر حلمه عنا. رحمته الواسعة بنا ونحن ما نزال في بطون أمهاتنا ، وبهذا ذكَّرنا في القرآن الكريم.
رحمته بنا ونحن في أحضان أمهاتنا، يعطفن علينا بقلوب مليئة بالرأفة والشفقة على الرغم من أننا نكون في ظرف لا ننفع الأمهات فيه بشيء، بل نؤذيهن. أليس الولد يؤذي أمه بأشياء كثيرة؟. يقلقها وقت نومها، يقلقها أثناء عملها، يوسخ ثيابها، وتخدمه بكل رغبة، تخدمه بكل ارتياح، يعجبها وترتاح حتى عندما تسمع صوته، وإن كان في منتصف الليل بعد أعمال شاقة طول النهار، يعجبها أن تسمع صوته، وتضمه إلى صدرها, وتَحْنُو عليه بقلبها وعطفها.
وهكذا تجد في مختلف الحيوانات الأخرى، حتى تلك الحيوانات الشرسة، تلك الحيوانات ذات المنظر البشع. أنثى التمساح التي ليس لها حِجْر تحتضن صغارها فيه، أين تضع صغارها؟ في فمها. ذلك الفم المليء بالأسنان الرهيبة، فم طويل فيه مواشير من الأسنان فتحمل أولادها برفق وشفقة فوق أسنانها الرهيبة المفترسة، فيحس بالطمأنينة، ويحس بالارتياح فوق تلك الأسنان، التي لو رآها واحد منا عن بُعْد لولى هارباً من بشاعتها، لا تحاول أن تطبق فمَها على صغارها، تطبق فمها بالشكل الذي فقط يمسك صغارها. الرحمة حتى داخل الفم المليء بالأسنان المفترسة البشعة الشكل الكثيرة العدد.
وهكذا تجد في بقية مخلوقات الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بمرحلة من مراحل المخلوقات هي مرحلة الولادة، ومرحلة الحضانة للصغار.
مظاهر رحمته تعالى بنا واسعة جداً حتى في تشريعه لنا، يشرع لنا ما هو ضروري بالنسبة لحياتنا أن نسير عليه، حتى وإن لم يكن هناك من ورائه لا جنة ولا نار. المتأمل يرى بأنه فعلاً ضروري للحياة، أليس الناس يشرعون لأنفسهم قوانين ودساتير؟ هل وراءها جنة أو نار من الدولة التي تشرعها؟. لا. مجرد تشريعات يقال: تمشون عليها لتستقر بها الحياة السياسية والاقتصادية، ويحصل استقرار داخل هذا الشعب أو ذالك الشعب فيسعد الناس. هذا كل ما يقولونه من وراء ما يشرعون. ومع هذا ما أكثر الأخطاء التي تظهر في تلك التشريعات؛ لأنها ناقصة جاءت من قاصرين وناقصين شرعوها للناس، الناس الذين لا يمكن أن يعلم بما هو تشريع مناسب لهم إلا الله الذي خلقهم سبحانه وتعالى.
أما الله سبحانه وتعالى فتجد كيف أنه فيما هدانا إليه وفيما شرّعه لنا مما هو ضروري بالنسبة لحياتنا لتستقيم عليه، ويسعد الناس في السير على نهجه، يأتي ليعدنا على ذلك بالأجر العظيم والثواب الكبير، برضاه وبالأمن يوم لقاه، وبالجنة التي عرضها السموات والأرض التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتَلَذّ الأعين. أليس هذا من مظاهر رحمة الله؟.
لو أتى رئيس من الرؤساء وصاغ دستوراً معيناً، أو قانوناً في مجال من المجالات وقال: من التزم به وسار عليه فسوف نعطيه قطعة أرض في محافظة (حضرموت) سعتها كذا وكذا بمضختها بالقائمين عليها، لاتجه الناس لتطبيق ذلك القانون، ولآمنوا به ربما أعظم من إيمانهم بالقرآن من أجل أن يحصلوا على قطعة أرض، أو من أجل أن يحصل الواحد منهم على وظيفة معينة، وما قيمة الوظيفة، وما قيمة قطعة الأرض في مقابل جنة عرضها السموات والأرض؟!. {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} كل هذه الأنهار ، كل تلك الجنات المتدلية الثمار، كل تلك الجنات الواسعة المساحات، كل ذلك النعيم الدائم الذي لا ينقطع، كله يعتبر زيادة منه سبحانه وتعالى، رحمة لعباده، وعدهم به فيما إذا ساروا على هديه، والتزموا بتشريعه، أن يمنحهم ذلك النعيم العظيم ، هذه رحمة عظيمة.
ثم تجد أثناء دفعه للناس إلى أن يلتزموا بتشريعه، ودفعه بالناس إلى أن يسيروا على صراطه المستقيم الذي يوصلهم إلى مستقر رحمته الجنة، يفتح لهم في الدنيا أبواباً كثيرة لمضاعفة الأجر: من أول وَهْلَة الحسنة بعشر حسنات.
أي الناس من أقاربك من أرحم الناس بك يمكن أن يبادلك على هذا النحو في تصرفاتك معه الحسنة بعشر حسنات؟. هل يمكن أن تتعامل معك أمُّك على هذا النحو في أمور تخصها فتقول لك : يا بني اذهب اعمل وحاول أن تكسب لي مائة ريال وأنا سأعطيك بدل المائة ألف ريال، هل هذا يحصل؟. أو أبوك هل يمكن أن يعمل هكذا؟. أو حتى أولادك هل يمكن أن يعملوا هكذا؟. أي الناس ممن هم رحماء بك يمكن أن يتعاملوا معك على هذا النحو؟ من حيث المبدأ مائة بألف ريال أو حسنة بعشر حسنات؟. لا أحد إلا الله سبحانه وتعالى .
من الذي فرض عليه هذا؟. هل أحد فرض عليه هذا من جهة عباده؟. لا.
هو الرحمن الرحيم، هو الرؤوف الرحيم الذي يرشدنا، ويشجعنا بمضاعفة الأجر على أعمالنا، لنكون جديرين بما وعد به أولياءه ، لتثقل موازيننا يوم القيامة . فجعل الحسنة بعشر حسنات والسيئة واحدة منك يكتبها واحدة، وعندما تتوب تمحى كلها وتتبدل حسنات مكانها، أليست هذه رحمة؟. {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} يحتفظ لك برصيدك من الحسنات مهما أمكن، إلا أن تأتي أنت بحماقتك فتعمل ما يحبطها، فتصبح أنت من جنيت على نفسك.
قد أعتذرُ إلى شخصٍ أسأت إليه، ماذا يمكن أن يعمل لي بدل اعتذاري إليه؟. سيقول لي: ” جاهك على الرأس يا رجّال، وكانت زلّة وانتهت، ونحن اخوة من الآن فصاعدا”. أليس هذا كل ما يمكن أن يعمله شخص يحترم وصولك إليه لتعتذر من زلة بدرت منك نحوه؟. أما الله فهو يتوب عليك, بل هو أحياناً - ومع بعض عباده - يتوب عليهم أولاً ليتوبوا، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَـتُوبُوا} ومتى ما تاب أحدنا من زلة بدرت منه، أو سيئة هي في نفس الوقت ضر عليه وليست على الله . هل هناك ضر على الله فيما أعمل؟. فلأنني رفعت ضراً عن الله قدّر لي ذلك العمل فبادلني بحسنات بدل تلك الأزمة التي فككتها عنه؟. ليس هكذا.
الله لا تضره معاصينا، معاصينا ضر علينا نحن، ولكن على الرغم من ذلك يأتي هو فيبدل - عندما نـتوب إليه - يبدل سيئاتنا بحسنات، الأمر الذي لا يكاد أن يفعله أي شخص ممن تعتذر نحوهم من زلة بدرت منك إليهم وإن كانت ضراً عليهم.
أما الله سبحانه وتعالى فهو الذي لا تضره معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه، وهكذا يتعامل معنا.
ثم هل هذا هو أكثر ما يمكن الحصول عليه وما يمكن أن يعمله بالنسبة لمضاعفة الحسنات؟. لا. يفتح مجالات واسعة، ويفتح أبواباً واسعة: في خلال اليوم هناك أوقات معينة فيها ، يُضاعِِف فيها الأعمال. في خلال الأربعة والعشرين ساعة هناك وقت متأخر في ثلث الليل الأخير يضاعف فيه الأعمال والحسنات أكثر. هناك داخل الأسبوع يوم واحد يضاعف فيه الحسنات وهو يوم الجمعة، في نفس هذا اليوم ساعة واحدة يضاعف فيها الأجر أكثر. في السنة هناك شهر يضاعف فيه الحسنات أكثر إلى سبعين ضعفاً، وفي نفس الشهر ليلة واحدة يضاعف فيها الحسنات آلاف الأضعاف هي ليلة القَدْر.
في ليالٍ وأيام معينة هي ليال العشر الأولى ذي الحجة تضاعف فيها الحسنات أكثر . هذا بالنسبة للزمن .
وكذلك بالنسبة للأماكن هناك يفتح أماكن معينة تكون العبادة فيها أفضل: المساجد، والمساجد متعددة هناك مساجد العبادة فيها أفضل من العبادة في المساجد الأخرى، كالمسجد الحرام ومسجد رسول الله (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) والمسجد الأقصى. في داخل المسجد الحرام بجوار الكعبة تبدو الحسنات أكثر وتضاعف أكثر.
ثم بالنسبة للأجواء تُؤدى فيها العبادة تجد كيف أن العمل الجماعي يكون الأجر فيه مضاعفاً أكثر فعندما تصلي جماعة تصبح صلاتك بنحو خمس وعشرين صلاة.
وفيما يتعلق بالمال يفتح مجالات لمضاعفة الأجر بشكل أفضل وأكثر من الحسنة بعشر إلى الحسنة بسبعمائة حسنة وأكثر {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أليس هو سبحانه وتعالى برحمته من يعمل على أن يضاعف حسناتنا؟. تلك الحسنات التي تصدر منا بأعمال بسيطة وليس بحاجة إليها، بل نحن المحتاجون إليها، فيضاعفها لنا ليرفع درجاتنا، لأنه حتى وإن كان يريد منا أن ندخل الجنة فهو يريد أن ندخلها ونحظى بدرجات رفيعة فيها.
فيما يتعلق بأعمالك أنت في الدنيا وأنت تجمع المال من الذي يمكن أن يتعامل معك من أسرتك على هذا النحو فيفرغ وقته ويُجهد نفسه في تَـثْـمِير رأس مالك. فتجمع عند أخيك أو عند والدك أو عند أمك مائة ألف فيقوم هو بتثميرها ومضاعفتها فلا تمُرّ عليها فترة من الزمن إلا وقد أصبحت سبعمائة ألف، هل هناك أحد يعمل هذا؟.
هل يمكن لأبيك أن يعمل هذا ؟ تودع عنده مائة ألف فيقوم هو بالعمل فيها والتجارة فيها واستثمارها لتصبح بعد أربع أو خمس سنين سبعمائة ألف؟. لا. بل قد لا يبقى رأس المال سالماً .سيأكلها ويقول: الولد وما ملك لأبيه، أليس هذا هو ما قد يحصل؟. وهكذا تجد أمك، هكذا تجد أخاك، هكذا تجد أباك ، هكذا تجد إخوانك وأصدقاءك، ليس هناك أحد مستعد - ممن هو رحيم بك - أن يُجهد نفسه ليُثَمِّر رأس مالك هكذا.
ثم بعد أن يُثَمِّر رأس مالك فيصبح سبعمائة ألف هل سيعطيك فيما بعد سيارة قيمتها أربعة ملايين جائزة على أن مالك كثر إلى سبعمائة ألف هل هذا ممكن؟. أما الله فيعطي بعد مضاعفة الحسنات يضاعفها يضاعفها ثم في الأخير يعطيك جائزة مهمة جداً جداً لا يساويها شيء {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
من ملزمة معرفة الله – عظمة الله- الدرس السابع
ألقاها السيد/حسين بدرالدين الحوثي
بتاريخ: 25/1/2002م
اليمن - صعدة