متابعات../
لم تكن أكاذيب الإدارة الأمريكية في الحديث عن “إعادة الشرعية في اليمن” أو “محاربة الإرهاب” أو “حماية الممرات الدولية من أعمال القرصنة” أو عن “وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق” الأكاذيبَ الوحيدة التي استخدمها المجمع (الصناعي العسكري النفطي المصرفي) المتحكم بالقرار الأمريكي لتبرير العدوان على اليمن وتدمير سوريا و غزو العراق وفرض الحصار على شعبه. كما لن تكون الأكاذيبُ المستحدثة ضد سوريا الأكاذيبَ الأمريكية الأخيرة.
فقوى الهيمنة والاحتلال الاستعمارية إذا قررت غزو بلد ما فإنها لا تحتاج إلى ذرائع ومبررات، لأنها قادرة دوماً -بما تملكه من قدرات ووسائل تضليل- على اختلاق هذه الذرائع وافتعال تلك المبررات من أجل تحقيق غاياتها.
ولعل إطلالةً سريعة على حروب الولايات المتحدة الأمريكية -منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن الحادي والعشرين- تكشف لنا بوضوح صحة هذه المعادلة.
فالحرب الأمريكية على إسبانيا عام 1898 للاستيلاء على جزر الكاريبي بدأت بذريعة تفجير الإسبان لسفينة أمريكية، ليتبين بعد 82 عاماً -وبموجب اعتراف أمريكي- أن لا علاقة للإسبان بذلك التفجير، وإنما وراءه انفجار محركات داخل السفينة ذاتها.
الدخول الأمريكي إلى الحرب العالمية الأولى عام 1915 تمّ إثر تعرض الألمان للبارجة الأمريكية لوسيتانيا وتدميرها، ليتبين فيما بعد أن السلطات الأمريكية هي من سربت معلومات لجيش الرايخ الثالث عن تلك البارجة لتدميرها وقتل كل البحارة الأمريكيين الذين كانوا بداخلها لإيجاد مبرر للانخراط في الحرب العالمية ضد دول المحور آنذاك.
أما معركة بيرل هاربر 1941 التي دخلت بسببها واشنطن الحرب العالمية الثانية ضد اليابان وألمانيا وإيطاليا فقد تبيّن -لاحقاً- أن القيادة الأمريكية العليا كانت تملك معلومات دقيقة عن موعد الهجوم وحجمه قبيل وقوعه، لكنها لم تضع القيادة المركزية في الهاواي بصورة المعلومات لتفادي الخسائر الكبيرة الناجمة عنه وبشهادة قائد الموقع نفسه فيما بعد.
لم يكن الأمر مختلفاً في أمر غزو كوبا مطلع الستينات المعروف بخليج الخنازير، فقد كشفت وثيقة للمخابرات المركزية الأمريكية (تمّ الكشف عنها بعد مرور المهلة المعروفة على إبقائها سرية) عن أنها (أي المخابرات الأمريكية) قد وضعت جملة سيناريوهات تبرّر غزو كوبا، منها تفجير سفينة أمريكية قرب الساحل الكوبي واتهام فيديل كاسترو بها، أو شن هجوم على مخيمات اللاجئين الكوبيين في ديامي وقتل عدد منهم والإيحاء بدور كوبا في ذلك، أو -وهو الأخطر- تحضير طائرة دون طيار تحمل رقم طائرة مدنية ونوعها وتنطلق في التوقيت ذاته، ثم يتمّ إنزال الطائرة المليئة بالركاب بأسمائهم المستعارة، ثم يجري تفجير الطائرة الأخرى بدون طيار واتهام السلطات الكوبية بذلك.
-
ذرائع احتلال فيتنام
ولعلّ الفضيحة الأكبر كانت في السبب الذي شنّت لأجله واشنطن حربها ضد فيتنام حين أدعى وزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت ماكنمارا أن الفيتناميين قد أغرقوا سفينة أمريكية قيل إن اسمها “مادوكس” في خليج تونكين الفيتنامي، وانتزعت شهادة حكومة سايغون العميلة المؤيدة لاتهامهم، فكانت حرب مديدة قُتل فيها 4 ملايين فيتنامي وعشرات الآلاف من الأمريكيين، ليخرج بعد 40 سنة ماكنمارا ذاته ليعلن أنه لم يكن هناك سفينة أمريكية في خليج تونكين، تماماً كما خرج كولن باول وزير الخارجية الأمريكية بعد خمس وأربعين سنة على حادثة خليج تونكين ليعتذر عما قدّمه من أفلام ووثائق عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق.
ولعل العراق كان الأكثر عرضة لهذا النوع من الأكاذيب تبريراً للحرب عليه، أبرز تلك الأكاذيب إبلاغ واشنطن للرياض عن وجود 250 ألف جندي عراقي مع دباباتهم على الحدود الكويتية – السعودية عام 1990 بهدف الغزو، وذلك لإفساح المجال للبنتاغون أن يقيم قواعده العسكرية في السعودية ودول الخليج، ليتبين -فيما بعد وفي صور التقطتها أقمار اصطناعية- أنه لم يكن هناك دبابة واحدة أو آلية أو رجل واحد على تلك الحدود، ومن تلك الأكاذيب شهادة ممرضة كويتية في واشنطن عن وحشية الجنود العراقيين وقتلهم لأطفال رضع في مستشفى كويتي ليتبين -فيما بعد- أن تلك الممرضة لم تكن إلا ابنة سفير الكويت في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، وإن الشهادة برمتها كانت من صنع واحدة من أكبر الشركات الإعلامية الأمريكية (هيل ونولتون)، تماماً كما كان لشركة مماثلة دور في ترتيب تظاهرة صغيرة جاءت إلى بغداد وعملت على تحطيم نصب للرئيس العراقي صدام حسين، بل يقول البعض إن المشهد كله كان مصوراً قبل حدوثه، ليكون جزءاً من الحرب الإعلامية التي أسقطت العاصمة العراقية قبل سقوطها فعلاً.
-
غزو أفغانستان
أما في أفغانستان فقد كشفت وثائق أمريكية عدّة أن خطة الهجوم عليها قد وضعت قبل أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، وأنها كانت موضوعة على طاولة بوش الابن في 10 أيلول/سبتمبر، وقد وضعتها شركة النفط الشهيرة UNOCAL بعد فشل مفاوضاتها مع طالبان للسماح لها بإنشاء خط أنابيب غاز من دول بحر قزوين إلى المحيط الهادئ، يومها قال مسؤولو الشركة لطالبان: إما أن نغطيكم بالذهب أو بالموت فما عليكم إلا الاختيار. والجدير بالذكر أن حميد كرزاي رئيس أفغانستان ما بعد الاحتلال كان أحد أبرز مستشاري الشركة التي أضافت مع شقيقاتها مصطلح (النفطي) إلى جانب مصطلح المجمع (العسكري الصناعي) الذي حذّر منه الرئيس أيزنهاور يوماً ليصبح اليوم (المجمع العسكري الصناعي النفطي المصرفي).
إن التذكير بهذه الأحداث -ومعها حادثة رواية محاولة اغتيال السفير الصهيوني في لندن لتبرير الغزو الصهيوني للبنان عام 1982- هو مسألة بالغة الأهمية لقراءة ما يدور حولنا، خصوصاً حول سوريا، والتنبه إلى اللعبة الإعلامية – المخابراتية الخطيرة الجارية والتي تسعى -دون شك- إلى استغلال “مطالب مشروعة” للشعب السوري لتحقيق أهداف غير مشروعة.
وأكاذيب الإدارة الأمريكية لم تكن الشيء الوحيد الذي أظهرته الحرب الأمريكية على العرق، بل كشفت تلك الحرب عن العلاقة بين الاحتلال والفساد، بل بينهما وبين الاستبداد وملحقاته من اغتيالات واعتقالات وتعذيب وتزوير وتهجير.
فالمواطن الأمريكي يتساءل -مثلاً- عن مصير 20 مليار دولار ضّختها حكومته من خزينة بلاده لإنشاء “مدارس وطرق ومستشفيات وكهرباء ومياه” في العراق حسب ما قال بوش يومها، فإذا بها تختفي خلال أشهر قليلة دون أن يحصل العراقيون على أي من الخدمات الموعودة، بل دون أي محاسبة قانونية لآلية الأنفاق، فشهد العالم أجرأ عملية نصب واحتيال عالمية كان مهندسها الأول “بول بريمر” والمستفيدون الرئيسون منها: شركة (هاليبرتون) التي كان ديك تشيني احد كبار العاملين فيها، بالإضافة إلى دونالد رامسفيلد وزير الدفاع آنذاك ومعه ضباط ومستشارون كبار أطلقوا معادلة ” Cost + ” أي الكلفة زائد نسبة من الأرباح وذلك من اجل نهب موارد العراق ومالِ دافع الضريبة الأمريكية بحجة الحرب في العراق، فحققت -مثلاً- الشركة المحظية أرباحاً بقيمة عشر مليارات ونصف المليار دولار خلال ثلاثة أشهر فقط، وهو رقم لم تُحققه شركة أمريكية أخرى ما عدا شركة (اكسون) النفطية في ظرف آخر.
وكما كان الراعي الأكبر فاسداً، فان الرعاة المحليين الأصغر تمثلوا به ونهبوا لحساب أسيادهم المحتلين خيرات العراق على نحو غير مسبوق جعل من بلدهم -الذي كان محصناً ضد الفساد على مدى عقود- مع أفغانستان، على رأس لائحة البلدان الأكثر فساداً، ولعل ما تتعرض له “هيئة النزاهة” في العراق من قتل لموظفيها وتفجير لمبناها وسرقة لوثائقها هو اسطع دليل على مدى تغلغل الفساد العراقي منذ الاحتلال.
طبعاً هناك حقائق أخرى كشفتها تلك الحرب وهي علاقتها بالمشروع الصهيوني ومخططاته الرامية إلى تفتيت المنطقة وتحويلها مسرحاً لفتن عرقية وطائفية ومذهبية، كما عن تبعية ما يسمى “المجتمع الدولي” للقرار الأمريكي والسعي لتغطيته وتكريس مفاعيله. وكلها حقائق تحتاج إلى كلام آخر في مجال آخر.
إن هذه الأكاذيب التي أدّت إلى حروب ضد الإنسانية وجرائم حرب، تحتاج اليوم إلى وقفة من كل أحرار الأمّة والعالم في مواجهة حرب عدوانية يجري التحضير لها في عواصم غربية وإقليمية وعربية من أجل استكمال مخطط تدمير سوريا وسائر دول المنطقة.
كما أن أحرار الأمّة والعالم مدعوون لإطلاق حملة دولية لمحاكمة كل من له علاقة بأكاذيب وتضليل وتحريض على سفك الدماء في سوريا، خوفاً من تتويج تلك الأكاذيب بكذبة كبرى تدمر ما تبقى من سوريا وتقتل ما تبقى من شعبها.