الإمام علي نفسه كذلك هيأه الله لأن يكون لديه قابلية عالية، قابلية عالية لهذه التربية، لو لم يكن لدى الإمام علي نفسه فيما هيأه الله له قابلية كبيرة لمستوى التفاعل الكبير مع هذه العناية من جانب الرسول، لما أثمرت تلك الثمرة الكبيرة؛ لأنه مثلًا قد تحرص على أن تهتم بشخص معين أو بابنك مثلًا لتربيه تربية، تحرص تبذل جهودًا كبيرة؛ ولكن ترى النتائج محدودة؛ لأن مستوى القابلية لدى المتلقي محدودة مثلًا، لكن الإمام علي لا، كان مستوى القابلية كبيرًا لديه، وتفاعله هو، وهو من الله مهيأ لأن يتفاعل بشكلٍ كبير، فكان كل جهدٍ تربويٍ من رسول الله يثمر في الإمام علي ثمرةً عظيمة، يترك فيه أثرًا بليغًا، يحقق نتائجه فيه «وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ، وَلاَ خطلةً في فعل» استقامة عالية تفاعل كبير وتأثر عظيم، ثم يحكي الإمام - علي عليه السلام - بفعل هذا الارتباط القوي، هذا الارتباط المتميز، هذا الاندماج الكبير في حياة النبي، يحكي عن واقع النبي نفسه - صلوات الله عليه وعلى آله «وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ تَعَالَى بِهِ - صلى الله عليه وآله - مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ» الرسول نفسه حظي بتربية عظيمة جدًّا، وهو كذلك كان مهيأ بشكل عظيم جدًّا، لا أحد يساويه من البشر فيما هيأه الله له من التأثر والتقبل، فالنبي حظي برعاية خاصة من الله في التربية، أن قرن الله به ملكًا عظيمًا من ملائكته، يهتم بتربيته بتعليمه بتهذيبه بتوجيهه، وهذا الرجل الذي تولى الله تربيته وأنزل ملكًا من ملائكته ليؤدي هذا الدور أيضًا تولى هو تربية علي، يواصل الإمام علي - عليه السلام - ويشرح لنا تلك الأجواء التربوية الرائعة فيقول:«وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَمًا مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ».
تربية مستمرة يومية عناية خاصة، اهتمام كبير، تنشئة على مكارم الأخلاق منذ الطفولة. ومما تميز به الإمام علي - عليه السلام - أنه وبالاختلاف مع بقية المسلمين في عصر النبي - صلوات الله عليه وعلى آله - لم يحدث أبدًا بأن تدنس بدنس الجاهلية لا بشركها ولا بقذاراتها ولا بباطلها، بفعل هذا الاختصاص، هذه العناية، هذه التربية، هذا الارتباط الوثيق -منذ أن كان طفلًا صغيرًا- بالنبي - صلوات الله عليه وعلى آله - هكذا يقول:«يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَمًا مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله - وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ».
فكان الإمام علي - عليه السلام - بفعل هذه التربية العظيمة والإعداد العالي والعناية الخاصة ارتضع الرسالة ارتضاعًا، تعلم الأخلاق، عاش أجواء الهداية الإلهية والاختصاص الوثيق والارتباط القوي جدًّا بالرسول - صلوات الله عليه وعلى آله - وواكب الإسلام من يومه الأول فكان أول المؤمنين برسول الله - صلوات الله عليه وعلى آله - وتوجه في بقية حياته منطلقًا بانطلاقةٍ متميزة، ليسهم إسهامًا كبيرًا، عظيمًا، متميزًا في إقامة الرسالة الإلهية، في إقامة الدين بجهاده المرير، وما بذله من جهودٍ كبيرة وهو يجاهد ويقاتل مع رسول الله - صلوات الله عليه وعلى آله - موظِفًا ما منحه الله من مؤهلات عالية على المستوى الإيماني وعلى المستوى الفطري بما أعطاه الله من شجاعة فائقة وقدرات قتالية متميزة ازدادت وعظُمَت بالإيمان نفسه، بفعل الإيمان نفسه فكان فارس الإسلام ورجل الإسلام وبطل الإسلام الذي تصدّى في كل ميادين القتال وفي ساحات الصراع لصناديد الكفر وأبطال الشرك والطغاة والمستكبرين بكل ما كانوا يمثلونه من إمكانات وقدرات وتحدٍّ ضد الإسلام وضد أهله .