{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، تاريخياً عندما خرج رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- إلى بدر، وبدر منطقة واقعة ما بين مكة والمدينة، وتحرك وخرج من المدينة، وكان البعض ممن خرج كارهون للخروج؛ لأنها ستكون أول عملية عسكرية كبيرة، وأول صدام مباشر وكبير ما بين المسلمين وأعدائهم، وهي أول غزوة بالمفهوم الذي اصطلح عليه أهل السير في الغزوات، بالمفهوم الحقيقي لها: كغزوة كبيرة، وغزوة يحدث فيها التحام عسكري كبير، فلأنها المواجهة الأولى التي سيخرج إليها المسلمون؛ كان البعض متخوفين وقلقين، ولربما يتوقعون- إلى حدٍ كبير- الهزيمة، ويتوقعون أن العدو سيسحقهم، وهذا كان حالاً يَنمُ عن قصور في الجانب الإيماني، وفي التوكل على الله، وفي الثقة على الله -سبحانه وتعالى-.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كان خروجه أولاً بأمرٍ من الله، بتوجيهاتٍ من الله -سبحانه وتعالى-، وهذا هو الذي نتربى عليه في الجهاد في سبيل الله: أن نتحرك بناءً على تعليمات الله، استجابةً لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}، ولأن هناك توجيهات من الله -سبحانه وتعالى-؛ فهذا كافٍ في أن يتحرك الإنسان، وفي أن يندفع، وفي أن ينطلق، وفي أن يستجيب لله -سبحانه وتعالى-، والدافع الإيماني يدفع الإنسان للالتزام والطاعة والتحرك.
{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، والخروج هو بالحق، عندما تتحرك في سبيل الله فلا بدَّ أن تكون في موقف الحق، وخروجك هو بالحق؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- عندما أمرنا هو يأمرنا بالحق، وبمقتضى الحق؛ لأن هذا هو الحق، والقضية التي تتحرك فيها لا بدَّ أن تكون قضية حق، لا تكون فيها ظالماً، لا تكون فيها مبطلاً، لا تكون فيها متجبراً، لا تكون فيها مفسداً؛ إنما تتحرك وفق التعليمات الإلهية في الموقف الحق والقضية الحق، وهذا يستوجب أن يكون المنطلق منطلقاً إيمانياً، من أجل الله -سبحانه وتعالى-، وأن تكون قضيتك عادلة، لا تقف في موقف الباطل، الذي يقف في موقف الباطل حتى لو سماه جهاداً في سبيل الله فليس بجهاد، عندما يكون ظالماً، مبطلاً، مفسداً، غاشماً، مجرماً… كما يحصل اليوم، التكفيريون يتحركون بظلم وإجرام وإفساد، وخدمة لأعداء الأمة، ويسمون ذلك جهاداً، المعتدون على بلدنا (على اليمن) يسمون ما يرتكبونه من أبشع الجرائم الرهيبة والشنيعة، وسعيهم لاحتلال هذا البلد واستعباد هذا الشعب، جهاداً في سبيل الله، ليست المسألة مسألة عنوان، بل لا بد أيضاً من المضمون، تكون القضية حقاً وبالحق، وهذا كافٍ للخروج والتحرك.
{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، فهم يجادلون من منطلق مخاوفهم، وليس من منطلق أن هذا الموقف خاطئ، يجب تصحيحه من منظور الحق، ومن معيار الحق؛ وإنما من منظور المخاوف النفسية التي هي ناتجة عن ضعفٍ في الإيمان.
{بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، كانوا يعانون من هذه الحالة: مخاوف شديدة طغت عليهم وأثرت عليهم، حتى لم يكونوا مؤملين للنصر وراجين للنصر، كأن المسألة الحتمية هي الهلاك، والتوقعات التي أصبحت توقعات رئيسية لديهم هي النهاية، فكانت توقعاتهم وحساباتهم خاطئة. هناك درس مهم من هذا؛ لأن الكثير من الناس لا يزال ينظر هذه النظرة الفاقدة للأمل، اليائسة من النصر، التي لا تثق بالله -سبحانه وتعالى- ولا ترجوه، والتي تنطلق من حساب التكافؤ المادي والعددي، وليس بحساب التوكل على الله -سبحانه وتعالى-، والأخذ بأسباب النصر التي أرشد إليها القرآن الكريم.
حتى لا يبقى الحق مجرد عنوان!
{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، الطائفتين: (طائفة العير) القافلة التجارية التي كان على رأسها أبو سفيان ومعه عددٌ معه، والطائفة الأخرى: (الجيش المسلح) الذي خرج من مكة يقوده أبو جهل؛ بهدف القضاء على المسلمين عسكرياً، الله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين (الظفر بإحدى الطائفتين)، فكانت رغبتهم تتجه في أن يظفروا بـ(غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ)، يعني: غير الطائفة المسلحة، يعني القافلة التجارية التي على رأسها أبو سفيان ومعه عددٌ معه من المشركين، ومعنى هذا أنهم كانوا يرغبون بالحصول على تلك القافلة التجارية ومن معها، كان أبو سفيان- بنفسه- هدفاً مهماً بالنسبة للمسلمين؛ باعتباره أحد القيادات البارزة والأساسية للأعداء، ومعه البعض ، وكانوا لا يرغبون بالاصطدام العسكري، كانوا لا يرغبون بالدخول في المعركة العسكرية، ولكن إرادة الله -سبحانه وتعالى- أن يلتحموا عسكرياً، وأن يكون الظفر بالجيش المسلح الذي خرج للقاتل من جانب العدو؛ لأن تحطيم قوة العدو العسكرية كان الأهم، والأكثر نتيجة من مسألة الظفر بالطائفة غير المسلحة، التي هي طائفة القافلة التجارية (أبو سفيان ومن معه).
{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}؛ لأن إحقاق الحق يكون بتحطيم قوة العدو العسكرية، وبإفشاله عسكرياً؛ هذا الذي يحق الحق في الواقع العملي؛ لأن الحق يبقى عنواناً، ما لم يأتِ التحرك به في الواقع العملي، وإزاحة كل الباطل من أمامه في الواقع العملي، إحقاق الحق يأتي بالتضحية، يأتي بالموقف، يأتي بالعمل، يأتي بالجهاد في سبيل الله وفق التعليمات والتوجيهات القرآنية، لو كنت صاحب حق ومظلومية ولا تريد أن تتحرك، ولا تريد أن تضحي، ولا تريد أن تنهض بهذه المسؤولية؛ فلن يتحقق لك هذا الحق، سيبقى مجرد عنوان، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، يعني: عن طريق توجيه ضربة قاضية لتلك القوة العسكرية التي خرجت.
{لِيُحِقَّ الْحَقَّ }، ليحق الحق في الواقع، يتحول إلى حالة قائمة، حالة سائدة في الواقع، وليس مجرد عناوين؛ إنما عملياً من خلال انتصار لهذا الحق ولأهله، فيتحول إلى حالة قائمة في الساحة. {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}، يبطل الباطل كذلك بضربه، وبتحطيم قوته وما يستند إليه وما يعتمد عليه؛ حتى يزاح من الواقع.
لكي يحق الله الحق لا بد من التحرك
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، ولو كرهوا وترتب على كرههم هذا كل ما يستطيعونه، وكل ما يحيكونه من مؤامرات ومكائد؛ لأن تحت عنوان (كَرِهَ) كل ما سيفعلونه من أعمال، وما سيخططون له من أعمال، وما يكيدون له من مؤامرات، فكل مؤامراتهم ستبوء بالفشل، عندما تتحرك الأمة بجد، بصدق، بتوكلٍ على الله -سبحانه وتعالى- وفق التعليمات والتوجيهات الإلهية، بصلاح ذات البين، بالتعاون، بالالتزام بهذه التعليمات والقيم، الله -سبحانه وتعالى- يحق الحق، وفعلاً هذا ما حصل، أحق الله الحق، وانتشرت راية الإسلام، وثبت الإسلام، واستقوى أمره، استقوت الأمة الإسلامية ونمت وعظمت، وكانت هذه المعركة بداية السقوط لقوى الشرك والاستكبار آنذاك، حتى اضمحلت وتلاشت وانتهت، وهزمت هزيمةً نهائية، وحتى أتى يوم الفتح الذي فتح الله به مكة، وانتشر به الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية كافة، فإذاً لا بدَّ من التحرك.
عندما نتأمل مثلاً في نماذج كثيرة في واقعنا المعاصر، مثلاً: في مظلومية الشعب اللبناني، كان الحق هو خروج إسرائيل من لبنان، وطرد إسرائيل من لبنان، من الذي أحق هذا الحق، هل مجلس الأمن؟ هل الأمم المتحدة؟ هل الجامعة العربية؟ من الذي أحق هذا الحق؟ الله أحق هذا الحق بجهود وتضحيات المجاهدين اللبنانيين في حزب الله وحركات المقاومة، عندما تحركت، عندما قاتلت، عندما اعتمدت على الله، عندما توكلت على الله، عندما جعلت من المنطلقات الإيمانية منطلقات تتحرك بها في الواقع العملي، ووثقت بالله -سبحانه وتعالى-؛ في نهاية المطاف أحق الله هذا الحق عملياً، ودحر إسرائيل، وطردت.
ما الذي أحق الحق في غزة؟ ما الذي أحق الحق يوم طردت أمريكا من العراق؟ ما الذي أحق الحق في ثبات شعبنا اليمني إلى اليوم؟ إلا أن يتحرك الناس وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى-، من هذه المنطلقات الإيمانية العظيمة التي تمثل وقوداً عظيماً، وتمثل طاقةً هائلة في مواجهة التحديات مهما كانت.
[الله أكبر / الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل / اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
ألقاها السيد/ عبدالملك بدر الدين الحوثي
سلسلة المحاضرات الرمضانية المحاضرة التاسعة عشر (يوم الفرقان- 2) 1441هـ