ولنبـدأ فـي الدرس، درس حول دعوة من الله سبحانه وتعالى لعباده في آيات كلماتها من أرق الكلمات وألطفها، منها يستشعر الإنسان رحمة الله الواسعة التي تتجلى في عمله على أن يهدي عباده إلى ما ينقذهم من عذابه الشديد.
قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {53} وَأَنِيبُوا إِلَـى رَبِّكُـمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ {54} وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُـمْ مِـنْ قَبْـلِ أَنْ يَأْتِيَكُـمُ الْعَـذَابُ بَغْتَـةً وَأَنْتُـمْ لا تَشْعُرُونَ {55} أَنْ تَقُولَ نَفْـسٌ يَـا حَسْرَتَـى عَلَـى مَـا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ {56} أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ {57} أَوْ تَقُـولَ حِيـنَ تَـرَى الْعَـذَابَ لَـوْ أَنَّ لِـي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ {58} بَلَى قَـدْ جَاءَتْـكَ آيَاتِـي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِـنَ الْكَافِرِيـنَ {59} وَيَـوْمَ الْقِيَامَـةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّـمَ مَثْـوىً لِلْمُتَكَبِّرِيـنَ {60} وَيُنَجِّـي اللَّهُ الَّذِيـنَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الزمر: 53 ـ61).
هذه فيما يقال عنها، عن هذه الآيات هي: من أرق الآيات في القرآن الكريم وألطف العبارات، تأتي بهذا المنطق المتلطف: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (الزمر: من الآية 53) بالمعاصي، بما وقعوا فيه من ضلال، لا يصل بكم استعراض ماضيكم وما أنتم عليه، فترى أن ماضيك مظلم، وأن أعمالك كانت كلها أو معظمها قبيحة، فيتعزز في نفسك اليأس وتظن بأنه: جهنم، جهنم.
{لا تَقْنَطُـوا مِـنْ رَحْمَـةِ اللَّهِ} (الزمـر: مـن الآيـة 53) لا تيأسوا. والشيطان قد يعمل على أن يصل بالإنسان إلى اليأس، فإذا مـا أتـى إليـك وأنـت تحـدث نفسك بماضيك وبمواقفك وبتقصيرك، فترى أن أعمالك الحسنة قليلة جداً، وأعمالك السيئة كثيرة جداً، فقـد يعمل على أن يوجد لديك حالة من اليأس. الله يقـول: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} من رجاء رحمته، من أن تحظوا برحمته، وتحصلوا على ما يوصلكم إلى مستقر رحمته.
{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} (الزمر: مـن الآيـة 53) مـا يبعد الإنسان عن رحمـة الله هـي: الذنـوب، مـا قـد يجعله يقنط من رحمة الله هـي: الذنوب، فهنا يقول: كـل الذنوب قد جعل لها توبة، من كل الذنوب يمكن أن تتخلص {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} أيّ ذنب أنـت فيه، أيّ ذنب وقعت فيه بإمكانك أن تتخلص منه وتتوب إلى الله منه، ليس هناك ذنب لا تقبل منه توبـة، ليـس لـه توبة {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: من الآية 53) هو سبحانه وتعالى يغفر لمن أناب إليه، يتوب على من تاب إليه، لأنـه غفـور وهـو رحيـم، بهـذه العبـارة التـي تعني المبالغة - كما يقولون - أي: كثير الغفران، عظيم الرحمة.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: من الآية 54). أليس هنا يرشد؟ بعد أن دعا عباده حتى أولئك أو هي دعوة في أساسها موجهة إلى أولئك الذين أسرفوا على أنفسهم، أن يقول لهم: أن بإمكانهم أن يتخلصوا مما هم عليه فلا ييأسوا من رحمته فإنه غفور رحيم.
ثـم وجههـم إلـى كيـف يعملـون، وهذا هو في القرآن الكريم من أظهر مظاهر رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده، يحذرهم، ثم يرشدهم، ثم يبين لهم ما يمكن أن يحصلوا عليه من جزاء عظيم لرجوعهم إليه، تتكرر هذه في القرآن الكريم كثيراً، ليبين للناس كيف يعملون ليعودوا إليه، كيف يعملون ليحصلوا على ثوابه، كيف يعملون ليحصلوا على رضوانه.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية54) الإنابة: الرجوع إلى الله، الرجوع بإخلاص. {وَأَسْلِمُوا لَهُ} (الزمر: من الآية 54) أسلموا أنفسكم له، أخلصوها له، سلموها له، عبِّدوها له، سلِّم نفسك لله، وأن تسلِّم نفسك لله يعني: انقطاعك إلى الله سبحانه وتعالى واستعدادك لأن تسير على هديه، أنيبوا: أسلموا وأنتم ما تزالون في فترة يقبل منكم الإنابة ويقبل منكم الإسلام، وينفعكم الإنابة، وينفعكم الإسلام.
{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (الزمر: من الآيـة 54) أمـا إذا مـا جـاء العـذاب فـإن عـذاب الله لا أحد يستطيع أن يرده، عذاب الله لا أحد يستطيع أن يدفعه، عذاب الله لا تجد من ينصرك في مواجهته ليحول بينك وبينه.
أن ننيب إليك، أن نسلم لك، قد تكون هذه هي حالة نفسية. أليس كذلك؟ أستطيع أن أقول عندما أتذكر وضعيتي وأتذكر ما عملت من ذنوب أن أقول: أستغفر الله العظيم وأتوب إليه بإخلاص وانقطاع إلى الله، وما كان مـن الأعمـال لـه علاقـة بالآخريـن أن تنوي التخلص من الآخرين.
ثم أرسخ في نفسي استعدادي الكامل للإسلام لله. ثم مـاذا بقـي إذاً؟ هنـاك منهـج تسيـر عليه، هذه حالة نفسية قد تحصل لدّي، قد تحصل لديك. لكن ليس إلى هنا وانتهى الموضوع، انطلق، هذه هي بداية رجوعك إلى الصراط المستقيـم، إلـى الطريـق الـذي يوصلك إلى رضوان الله وجنته.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَـا أُنْـزِلَ إِلَيْكُـمْ مِنْ رَبِّكُمْ} (الزمر: من الآية 55) لا تتوب من ذنب ثم تعود إلى الوضعية السابقة، إلى حالة فراغ، أن توطن نفسك على الاستعداد للعودة إلى الله، والإسلام لله، ثم تظل في نفس الوضعية السابقة. لا.
هذه إنما هي بداية لتصحيح وضعيتك للتخلص من الماضي المظلم، يبدأ باستعداد نفسي يتمثل في التوبة، وتوطين النفس على الاستسلام لله سبحانه وتعالى، ثم الانطلاقة العملية. وهي ماذا؟ الإتباع لأحسن ما أنزل إليكم من ربكم.
أنـت عندمـا تتـوب من ذنب ثم تظل هكذا بوضعيتك السابقـة فـارغ لا تتوجه توجهاً عملياً أنت معرض لأن تعود إلى الذنب من جديد، ثم ما تدري إلا وقد وقعت فـي الذنـب فتقـول: [أستغفـر الله العظيـم وأتـوب إليه]. وتبقى على نفس الوضعية الأولى ثم تدخل في الذنب من جديد. وهكذا، حتى يتغلب عليك الشيطان فيكون هو الذي يغلبك في الأخير.
التوبة هي بداية رجوع، هي الخطوة الأولى على طريق العمل الذي يتمثل في إتباع أحسن ما أنزل الله إلى عباده. ولأن هذا هو الذي يوفر لك أمناً من الوقوع في المعاصي من جديد على النحو الأول، وأنت منطلق لاتباع القرآن الكريم، إلى العمل بالقرآن الكريم بهدايته، بإرشاداته، سيبعدك هذا كثيراً جداً عن معاصي الله سواء ما كان منها ذنوب تقترف أو ما كان منها بشكل تقصير وتفريط.
ألسنا عندما نرجع إلى آيات الله نكتشف تقصيراً كبيـراً لدينـا؟ نكتشـف تقصيـراً كبيراً لدينا، حتى أولئك الذين يظنون بأنهم أصبحوا من أولياء الله كم يكتشف من تقصير كبير لديهم، في ميدان العمل في سبيل الله، في ميدان الجهاد في سبيل الله، في ميدان العمل لإعلاء كلمة الله وإصلاح عباده. ألسنا مقصرين في هذا؟ وهذا تقصير رهيب جداً، تقصير كبير جداً، لا تقبل معه - ربما - أي شيء من الطاعات الأخرى، لا تقبل معه أي طاعة من الطاعات الأخرى.
الإسلام دين مترابط، دين متكامـل لا يقبـل منك هذا وأنـت تـارك لهذا ورافض له، يجب أن تتحرك في كل المجـالات، أن تتحرك بكل إمكانياتك في كل المجالات، لأن الله أنزل إلينا ديناً كاملاً فلماذا يكون تطبيقنا له منقوصاً؟ لو كان يمكن أن يقبل منا المنقوص لأنزل إلينـا جـزءاً مـن الديـن {الْيَـوْمَ أَكْمَلْـتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيـتُ لَكُـمُ الْإِسْـلامَ دِينـاً} (المائدة: من الآية 3) فلماذا هـذا الدين الكامل ننطلق في مجال تطبيقه تطبيقاً منقوصاً؟ وهو ربط رضاه بهذا الدين الكامل، ووعده بالجزاء الحسن في الدنيا وفي الآخرة مرتبط بهذا الدين الكامل.
{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} كأن هذا مما يوحي أيضاً بأن التوبة نفسها لا يكون لها أثر إذا لم تنطلق أنت في اتباع مـا أنـزل الله إليك. وهنا يقول: {مَـا أُنْزِلَ} ولم يقل بعض ما أنزل. هل قال بعض ما أنزل؟ ما الذي أنزل؟ تصفح آيات القرآن الكريم ستجد ماذا أنزل.
في الوقت الذي أنزلت فيه الصلاة والزكاة التي نحن نعملها، ألسنا نعملها؟ أنزل فيه الجهاد، أنزل فيه وحدة الكلمة، أنزل فيه الاعتصام بحبله جميعاً، أنزل فيه النهي عن التفرق، أنزل فيه الأمر بالإنفاق في سبيل الله، أنزل فيه الأمر بالنصيحة والتواصي بالحق، أنزل فيه أشياء كثيرة أخرى هي أكثر مما نعمل
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن الكريم
معرفة الله – وعده ووعيده – الدرس العاشر
ألقاها السيد/حسين بدرالدين الحوثي
بتاريخ: 30/01/2002م
اليمن – صعدة