ونأتي إلى بعض الميزات لهذا المجتمع من خلال نص قرآنيّ ونص نبويّ، النص القرآني يقول الله سبحانه وتعالى - بعدما تحدث عن المهاجرين تحدث عن الأنصار -: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر:9].
المجتمع في مكة كان مجتمعَ طمعٍ، مجتمعًا ماديًّا، مجتمعًا يلهث وراء أن يأخذ بأي حال بأي أسلوب بأي طريقة، المجتمع في المدينة - مجتمع الأوس والخزرج - كان مجتمعًا معطاءً، مجتمعًا كريمًا، مجتمعًا سخيًّا، فكانت هاتان الحالتان تشكلان عاملًا مهمًّا في الفوارق الكبيرة بين مجتمع جدير ومهيأ وقابل لحمل هذه الرسالة، ومجتمع ليس مستعدًّا لتقبُّلها.
هذا المجتمع كان على درجة عالية من الاستعداد للتضحية والبذل والعطاء، مجتمعًا كريمًا وسخيًّا بكل ما تعنيه الكلمة، كان في استعداده للعطاء، في استعداده للتضحية، في استعداده للبذل، فيما يقدم، فيما يعطي، كان إلى مستوى هذه الدرجة الفريدة العظيمة المهمة
{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
قد يُعطي الغني وهو متمكن، ويعطي قليلًا مما لديه من ثروة، وضمن حساباته التي يرى فيها أنما أعطاه لا يؤثر على ثروته وإمكاناته، لكن الحالة التي يؤثر الإنسان فيها على نفسه.. على نفسه.. هي الحالة التي يقدم فيها لقضيته، يقدم فيها لمبادئه، لأخلاقه، يقدم فيها على حساب مصلحته الشخصية، وهل الإنسان خاسر في هذا؟ لا.
هؤلاء الذين هم أهل عطاء، هؤلاء الذين يحملون روحية العطاء بكل أشكاله هم البناة الحقيقيون للمجتمعات الكبرى، هم الفعَّالون، والمؤهلون لحمل القضايا الكبيرة، والمواقف العظيمة والمهمة، هم الاستثنائيون في التاريخ، هم البُنَاةُ، هم المؤسسون، هم الذين يصلحون لأن يكونوا رافعةً حقيقية للمشاريع الكبرى والمهمة، هم الفعَّالون والعمليون، أما أولئك فمكبَّلون بالشُّحّ، بالطمع، بالجشع، بالحرص، لا يؤهلهم ذلك لأن يكونوا راقين، إنما يهيئهم لأن يكونوا منحطين؛ لأن الطمع والجشع يذلُّ الإنسان، «الطَّمَعُ رِقٌّ مُؤَبَّدٌ» كما قال الإمام علي عليه السلام، رِقّ، عبودية، الطمع هو مهانة، هو خزي، هو خِسَّة، هو انحطاط، هو دناءة، الطَّمع الأعمى والجشع يهين الإنسان، يذل الإنسان، يجعل الإنسان يخضع للباطل أو يتَّجه في صف الظالمين والمستكبرين فيمارس معهم وفي صفِّهم أي جرائم، وأي فظائع مهما كانت؛ لينال شيئًا منهم.
أما أولئك الذين يحملون روحية العطاء والبذل، هو يفكر في كيف يقدم، وهو يقدم حتى في الظروف الصعبة جدًّا، هؤلاء هم الصابرون، هم الاستثنائيون، هم الأقدرون على حمل المشاريع المهمة والكبرى، هذه ميزة، ميزة هيأتهم لحمل الرسالة الإلهية.
النص النبوي فيما روي عن رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› وهو يقول لهم، يثني عليهم: «إنكم ما علمتم» يعني كما أنتم تعلمون وتعرفون أنفسكم «تكثرون عن الفزع، وتقلون عند الطمع»، الله أكبر ما أعظم هذه الصفة! رجال! رجال بما تعنيه الكلمة، تكثرون عند الفزع، عند الأخطار، وعند التحديات، تهبُّون وتتحركون وتظهرون وتأتون وتهبُّون. أما إذا المسألة مسألة أطماع ومصالح شخصية تقلُّون. ليس هناك ازدحام من جانبهم، إذا المسألة مسألة غنيمة أو مكاسب مادية، ليس هناك ذلك الازدحام، وذلك التهافت.
كانوا على هذا المستوى، كما قالوا هم عن أنفسهم - يخاطبون رسول الله -: «وإنا لَصُبُرٌ عند الحرب، صُدُقٌ عند اللقاء»، كانت هذه المواصفات المهمة والروحية العالية التي أهَّلتهم لأن يكون المجتمع الذي يحمل رسالة الله، يحمل راية الإسلام، يُؤوي وينصر ويستقبل ويحتضن ويتحرك بكل جديَّة، يعطي لهذه الرسالة كل شيء، يعطي النفس، يعطي المال، ولكنه في المقابل كسب كل شيء: كسب رضا الله، كسب العزّ الأبديّ، كسب الشرف الذي لا يساويه شرف، كسب المكانة التاريخية، وحقّق الكثير، وحقق الله على يديه الكثير