العوامل الأساسية التي مكَّنت من تحقيق وعد بلفور، ومن أن ينجح البريطاني، وكان هناك دفع أمريكي، هناك مصادر تاريخية تؤكِّد على أن الأمريكي- من تلك المرحلة المبكرة- كان من ضمن من سعى لدفع البريطاني إلى تحقيق ذلك، وإلى فعل ذلك، وإلى الإقدام على هذه الخطوة العدوانية، التي استهدفت أمتنا الإسلامية في بلادها العربية. العوامل التي مكنت الأعداء من ذلك ما هي؟
- أولها: وضعية الأمة.
- وثانيها: رعاية الغرب الكافر: البريطاني، ومعه الأمريكي؛ ومن بعده الأمريكي، وأصبح البريطاني في ظله، الدور الأبرز هو لأمريكا وبريطانيا، مع أنه هناك تعاون من فرنسا، من ألمانيا... من دول غربية أخرى.
الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" كان قد شتت شمل اليهود؛ لماضيهم الإجرامي، والمنحرف، والعدواني، والسيء، فقطَّعهم في الأرض أُمماً؛ ولـذلك لم يكن لهم تواجد في بلدٍ واحدٍ، يشكِّلون فيه كيانًا لهم، ويُمَثِّل عامل قوةٍ لهم، وهذه رحمةٌ من الله بعباده؛ لما يشكلون من خطورة كبيرة على المجتمع البشري، واستمر حالهم في الشتات على مدى مئات السنوات، بل آلاف السنوات، دهر طويل جداً وهم في حالة من الشتات والفرقة، فما الذي هيأ لهم أن يأتوا من جديد، ليتجمعوا في إطار عدوان، يحتلون به بلداً عربياً مسلماً، وفي إطار آمال وأهداف أوسع من ذلك، يستهدفون نطاق أوسع، ويستهدفون مقدسات المسلمين، ومن ضمنها المسجد الأقصى.
بالنسبة للعامل الأول، وهو عاملٌ خطير، ويجب أن تلتفت إليه الأمة، هي: وضعيتها التي هيَّأت لذلك، أصبحت مطمعاً لأعدائها، وبيئةً مهيأةً لذلك.
الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" قال في القرآن الكريم: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ}[آل عمران : 112]، وهو يتحدث عنهم، عن اليهود، {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}[آل عمران:112]، {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا}[آل عمران:112]، يعني: في أي زمانٍ ومكان، أصبحت مضروبةً عليهم حالة الذلة، وهي حالة تكبِّلهم عن أن يتمكنوا من النفوذ والسيطرة؛ لأنهم يشكِّلون خطراً كبيرًا على الناس، يعني: هذا من عدل الله، وهذا من رحمته؛ لأنهم بمعتقداتهم، وثقافتهم الشيطانية الباطلة، يحملون حقداً كبيراً على المجتمع البشري، ولديهم أطماع كبيرة جداً، وهم- في نفس الوقت- يتجرَّدون من القيم الإنسانية والأخلاقية، يظهر لنا ما هم عليه من السوء، والحقد، والعدوانية، والإجرام، والشر، والخطر، هم ظلاميون في أفكارهم، ومجرمون في سلوكهم، وعدوانيون في أهدافهم وسياساتهم؛ ولـذلك الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وقى الأمة من شرهم، ووقى المجتمع البشري من كثيرٍ من شرهم، من كثيرٍ من شرهم، على مدى آلاف السنوات؛ لما يشكلونه من خطورة بالغة على الناس، بسوئهم، وإجرامهم، وحقدهم، فكبَّلهم وقيَّدهم بالذلة، فكانوا في حالةٍ من الذلة التي تمنعهم عن الإقدام على نشاط عسكري، وجرأة عسكرية لأعمال عدوانية لقتل الناس وإبادة الناس.
{إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}[آل عمران:112]، الحالة الاستثنائية التي يتمكنون فيها من أن يكونوا مقدمين بجرأة على قتال الناس الآخرين، وعلى الاعتداء عليهم، وعلى الحرب ضدهم، هي تلك الحالة: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}[آل عمران:112]، والحالة التي حصلت هي حالة تتعلق بالأمة الإسلامية بكلها، والعرب جميعاً في المقدِّمة، العرب جميعاً في المقدِّمة، ما هي الاشكالية التي حصلت للعرب بينهم وبين الله حتى يكون هناك حبل من الله للبريطاني، ليمكِّن الصهاينة لاستهداف هذه الأمة؟ الحبل هذا هو حبل التسليط؛ نتيجةً لتفريط هذه الأمة في مسؤوليتها المقدَّسة، وواجبها العظيم، بحكم انتمائها للإسلام، والرسالة الإلهية، التي هي إرث جميع الرسل والأنبياء.
الأمة الإسلامية- وفي المقدِّمة العرب- شرَّفها الله بالإسلام، والإسلام ليس فقط مقتصراً على الشعائر الدينية، هي جزءٌ منه، ولكن له رسالة، وهناك مسؤولية على هذه الأمة، هي تلك المسؤولية التي عبَّر الله عنها في القرآن الكريم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110]، هذه الأمة ما هي واجباتها ومسؤولياتها لتكون خير أمة؟ وما هي الخيريَّة هذه التي تجعل منها خير الأمم؟ {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].
هذه الأمة هي المعنية بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}[النساء:135]، وأعطاها الله ما يؤهلها لذلك: من إمكانات، من موقع جغرافي، من مقدرات، وأعطاها هدىً عظيماً هو القرآن الكريم، ووعدها بالنصر، والتأييد، والرعاية، وأن يكون معها إذا نهضت لأداء مسؤوليتها هذه، لتكون الأمة التي لها الريادة في العالم، في إطار هذه المسؤولية المقدَّسة:
- تدعو إلى الخير، وتواجه الشر والأشرار، وتسعى لحماية المجتمعات البشرية من الشر والأشرار.
- تأمر بالقسط، وتعمل على إقامة القسط في الحياة، وتواجه الظلم والظالمين، وتمنعهم من ممارسة الظلم، وتسعى لإقامة ذلك في مختلف ربوع أرجاء المعمورة.
- تتحرك للنهي عن المنكر، والباطل، والفساد، وتسعى لنشر المعروف، وإقامة المعروف، والأمر بالمعروف في عنوانه الواسع، الذي يشمل مختلف المجالات.
لتنقذ المجتمع البشري من منابع الشر، ومنابع الإجرام، ومنابع الظلم والطغيان والفساد، وهي تلك القوى التي يعبِّر عنها القرآن الكريم بطائفةٍ من أهل الكتاب، وفريقٍ من أهل الكتاب، فريق الشر، والإجرام، والخطر، والضلال، الفريق الظلامي المجرم من أهل الكتاب: اليهود، ومن يواليهم من النصارى ويتحرَّك معهم، وكانوا جنباً إلى جنب على مدى تاريخٍ طويل، كما يقول الله عنهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[المائدة:51]، يتآمرون على أبناء هذه الأمة، ويستهدفون هذا الدور المقدَّس والعظيم، الذي هو لخير المجتمعات البشرية.
عندما فرَّطت الأمة في هذا الواجب المقدَّس؛ اتَّجهت نحو اهتمامات أخرى، غلبت على أبنائها المصالح الشخصية، والفئوية، والأهواء، والرغبات، والأطماع، وهبطت الأمة، هبطت أخلاقياً، هبطت فكرياً وثقافياً، هبطت في أهدافها، في دورها، هبطت في كل شيء نحو الأسفل، واستمر هبوطها إلى أن وصلت في الحضيض، وأصبحت قوى كثيرة من أبنائها تمدُّ يدها للبريطاني، والبعض يمدُّ يده- في مراحل مختلفة من التاريخ- إلى قوى أو قوى هناك من قوى الكفر، والظلام، والباطل؛ لتستند إليهم في تحقيق نفوذ ومصالح هنا أو هناك، أو تستند إليهم في حسم صراعات ومشاكل داخلية، مع خصمٍ هنا أو خصمٍ هناك من داخل الأمة، هذا أوقع الأمة في الحضيض، وجعلها في مقام المؤاخذة الإلهية؛ فَقَدت عزتها، فَقَدت قوَّتها، فَقَدت دورها بين الأمم، وأصبحت ساحةً مفتوحةً لكل الطامعين من مختلف القوى الكافرة، التي أصبحت تتسابق طامعةً في هذه الأمة، في بلدانها، وثرواتها، وموقعها الجغرافي، ومنافذها البحرية المهمة... وغير ذلك، وهكذا حصل، وأتى ما أتى من جانب البريطاني، ومعه الأمريكي، ومعه القوى الغربية، والمشروع الصهيوني، في ظل تلك الوضعية السيئة جداً.
ولهذا لابدَّ لأمتنا أن تسعى بجد لتصحيح وضعيتها؛ لأنه في الحال الذي تخرج فيه من دائرة المؤاخذة الإلهية، وتتجه للثقة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، والتوكل عليه، من أجل النهوض بمسؤوليتها، تتحرك فعلياً بإنابةٍ صادقةٍ إلى الله، للتحرك عملياً؛ سيمدها الله بالعون، بالنصر، بالتأييد، بوعده الصادق الذي لا يتخلَّف أبداً، كما مدَّ وأعان وأيَّد ونصر أوائلها، الذين تحرَّكوا تحت راية الإسلام، في صدر الإسلام الأول، وأمدَّهم الله بالتمكين العظيم.
واقع الأمة إذا اتَّجهت للنهوض بمسؤوليتها، وإنابة إلى الله؛ فذلك الحبل سينتهي: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ}[آل عمران:112]، إذا قطع الله ذلك الحبل: حبل المؤاخذة والتسليط عن هذه الأمة؛ حينها سينتهي الحبل الآخر الذي من الناس، عندما تتحرك هذه الأمة، تقف على قدميها، تنهض بمسؤوليتها، تعتمد على الله ربها، وتثق به، وتتوكل عليه، وتطهِّر ساحتها من الظلم والفساد، وتسعى لدورها العالمي والريادي، عندما تتَّجه هذا التوجه بصدق وجد مع الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"؛ فمنذ البداية يعطيها الله العون، النصر، التأييد، تمكين، وحينها سترى الكثير من القوى الغربية نفسها في موقف العاجز، الفاشل، المستسلم، الخاسر، المستسلم في ما يتعلَّق بأهدافه داخل هذه الأمة، سيرى أنَّ ساحة هذه الأمة أصبحت محصَّنة، وقوية، ومنيعة، وأنَّ هذه الأمة اتَّجهت اتِّجاهاً جاداً، هذا شيءٌ مهم.
أمَّا في الحالة التي يقف فيها البعض من أبناء الأمة، في الحالة نفسها: حالة التخاذل، والإعراض، والتجاهل، والتعامي عن كل الأحداث، وعن خلفياتها، وعن أسبابها، وعن نتائجها؛ فيمكن للأمة أن تتكبَّد الكثير من الخسائر، ولكن الاتِّجاه من أبناء الأمة، الاتِّجاه الواعي، الاتِّجاه الذي يستجيب لله تعالى، يتحرَّك في إطار المسؤولية المقدَّسة لهذه الأمة، ينهض بواجبه، يتصدى للأعداء، ينطلق من المنطلقات الإيمانية والقرآنية، ليحظى بتأييد الله ومعونته، فهو سيحقق هو النتائج، مهما كان هناك من أعباء، من محن، من متاعب، هي نتيجةً للوضعية التي وصلت إليها الأمة بتفريطها في المقام الأول؛ ولــذلك يتحرك أحرار الأمة في هذه المرحلة، يتحرَّكون من نقطة الصفر، فكانت هناك أعباء كبيرة، وصعوبات كبيرة، ومتاعب كبيرة؛ لأن التحرك من نقطة الصفر، ولكن معه رعاية إلهية، معه عونٌ من الله تعالى، ولذا نرى ما عليه إخوتنا المجاهدون في فلسطين من ثبات وفاعلية، بالرغم من الظروف الصعبة جداً، ولكن نرى هذه الرعاية الإلهية، عندما كان هناك من استجاب لله، وما رأيناه في لبنان أكثر، وما قامت عليه تجربتنا في اليمن كذلك... وهكذا أبناء الأمة الأحرار في مختلف البلدان، الذين استجابوا لله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وتحرَّكوا وفق هدي الله وتعليماته.