تلاحقت الأحداث بعد أن أعلن رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› عن الدعوة إلى الإسلام، وانتشر خبرها، وتحدّث الناس بها، وتهيّأ الجو النفسي والفكري العام لتوجيهها بصورة عامّة، ومخاطبة الناس بها، فأمر الله نبيّه ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› أن يخاطب عشيرته، ويدعوهم إلى الإسلام، ليكوّن له قاعدة شعبية، وحماية اجتماعية، وليُلقي الحجّة عليهم بالّتي هي أحسن، فأنزل الله تعالى الآية المباركة:
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاْقْرَبِينَ }
والّتي افتتحت بداية مرحلة جديدة من التحوّل في حياة الدعوة إلى الإسلام وأُسلوب المخاطبة، ووضع طواغيت قريش في الموضع الضعيف أمام الرأي العام المكّي خاصّة والعربي بصورة عامّة.
لقد أصبحت قريش هدفاً لدعوة الإسلام، ومساحة للتحرّك وتوجيه الضـربات للشـرك والكفر والظلم والطغيان. فاختار النبيّ ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› اُسلوباً اجتماعياً وجوّاً عاطفياً ونفسياً مؤثِّراً، ودعا بني هاشم وهم سادة قريش، فاجتمعوا في دار الحارث بن عبد المطلب بن هاشم وهو من وجوههم وزعمائهم، وكان فيهم أبو لهب وأبو طالب، وهما من أعمام النبيّ ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم›، وأمر عليّ بن أبي طالب أن يصنع طعاماً للحاضرين ففعل، لقد اجتمع الحاضرون وتناولوا الطعام، عشرة بعد عشرة ثمّ انعقد الاجتماع وتحدّث رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› وشرح لهم مبادئ الإسلام، وأهداف الدعوة، وما أمره الله به من إنذارهم، وتكريمهم إن استجابوا وأسلموا، إلا أن أبا لهب عمه تصدّى له وواجه بقسوة ورفض شديدين وقام محرِّضاً بني هاشم عليه ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم›، وداعياً إلى تطويقه والأخذ على يده قائلاً: (خذوا على يَدَي صاحبكم قبل أن يأخذ على يدهِ غيرُكُم، فإنْ منعتموه قتلتم، وإن تركتموه ذللتم).
ولم ينته خطاب أبي لهب التحريضي الإستفزازي حتى تصدى له أبو طالب الّذي ما برح يسند محمّداً ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم›، ويدافع عن دعوته، وهاجمه هجوماً عنيفاً، معلناً وقوفه إلى جانب محمّد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم) وداعياً إلى نصرته وتأييده بقوله: (يا عورة! والله لَنَنْصُرَنّه، ثمّ لَنُعينَنّه).
بعد ذلك وجّه خطابه إلى محمّد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› وبنو هاشم تنصت للخطاب قائلا:«يا ابن أخي! إذا أردت أن تدعو إلى ربِّك فأعلمنا حتّى نخرج معك بالسلاح» تطوّر الموقف، ودخل الصِّراعَ بهذا الاجتماع عنصر جديد، وكسبت الدعوة إلى الإسلام هذا الحدث الإعلامي الخطير، والموقف المؤيّد من أبي طالب والتهديد باستخدام السلاح لنصرتها.
ولم تنتهِ مكاسبُ هذا الاجتماع التأريخي الخطير في حياة الدعوة بهذا وحسب بل وخرج الاجتماع بمكاسب اُخرى وتحوّل كبير، (ويومئذ أسلم جعفر بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث، وأسلم خلق عظيم، وظهر أمرهم وكثرت عدّتهم، وعاندوا ذوي أرحامهم من المشركين).
وفي هذا الاجتماع وقف الرّسول ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› بعد أن دعاهم إلى نصـرته فقال: «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيِّي وخليفتي فيكم»، فلم يجب أحد منهم، فقام عليّ ‹عليه السلام› فقال: «أنا يا رسول الله أُؤازرك على هذا الأمر»، فقال: «اجلس». فأعاد الرّسول ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› القول ثانية، وصمت القوم وأجابه عليّ ثانية. ثمّ أعاد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› القول ثالثة، فلم ينطق أحد منهم بحرف، فقام عليّ فقال: «أنا أؤازرك يا رسول الله على هذا الأمر»، فقال: «إجلس فأنت أخي ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي».
الكثير منهم انصرفوا مستهزئين وقالوا: ألهذا دعوتنا؟
ولكن رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› في الصباح يذهب إلى الصفا ليدعو قريشًا كلها.
رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› فوق الصفا: «يا معشر قريش.. يا معشـر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم تصدقوني؟».
قالوا: نعم. أنت عندنا غير متهم.
قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذابٍ شديد».
«يا بني عبد المطلب يا بني عبد مناف، يا بني زهرة، يا بني تميم، يا بني مخزوم، يا بني أسد إني لا أغني عنكم من الله شيئًا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله».
أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟
جبريل ‹عليه السلام›:
{ بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)}[سورة المسد:1-5].
تشاور الطواغيت وقرروا الذهاب إلى أبي طالب.
أحدهم: يا عبد مناف، يا أبا طالب إن ابن أخيك يسبُّ آلهتنا ويسفِّهُ أحلامنا.. فإن كان يريد ملكًا جعلناه ملكًا علينا، وإن كان يريد مالًا جعلناه أكثر مالًا.
محمد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› يقول: «يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه».
وكانت مكائد قريش تبوء بالفشل، فكلما حاولوا تشويه رسول الله ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم› ونشـر الأكاذيب ومعارضة القرآن جاء القرآن بقوة لينقض كل مكائدهم ويظهر كذب أقاويلهم وخبث نواياهم:
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }[فصلت:26]
وعندما يتكلمون مع العامة لتضليلهم يأتي القرآن ليفضحهم.
وفي المكان الذي تجتمع فيه قريش (دار الندوة) كان الجميع يرى بوضوح هزيمة قريش أمام القرآن.
فقام أحدهم قائلًا: لقد جعل محمدٌ منا ومن آلهتنا حديث الناس في الأسواق والمجالس ولا نستطيع مقارعته، فما الحيلة لمنع الناس من اتباعه قبل أن يقضـى عليكم؟
ويجيبه آخر: لا حيلة إلا أن يتركه أبو طالب لنا على أن نعطيه مالًا وولداً، فينطلقون إلى أبي طالب ويعرضون عليه هذا العرض.
أبو طالب: أما المال فلا حاجة لنا به وأما الولد فما تنصفوني، أتعطوني ولدًا أغذيه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه؟
مطعم بن عدي: ما أراك تريد أن تقبل منا شيئًا.
أبو طالب: والله ما أنصفتموني ولكنكم قد أردتم وأجمعتم على خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ فاصنعوا ما بدا لكم، ثم اتجه إلى (محمد) وقال له: اذهب يا بني يا محمد فافعل ما أحببت، والله لا أسلمك لشيء أبدًا وأنشد يقول:
والله لـن يصلـوا إليـك بجمعهــــــم
حتى أوسد في الـتراب دفينــا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وامضِ وقَرَّ بذاك منك عيونا
ولم يستطع أولئك الطواغيت إطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.