أولا: تحرير الإنسان من العبودية لغير الله
هذا العالم كله مملكة الله بسمائه وأرضه وإنسه وجنّه وكل مخلوقاته هو مملكة الله، الله ملكه، الله إلهه، الله ربه، الله رب الناس، الله ملك الناس، الله إله الناس، هو من يجب أن يذعن له الناس، أن يطيعه الناس، أن يخافه الناس، أن يرجوه الناس، أن يتفانوا في طاعته والتسليم له، الإنسان بقدر ما يبتعد عن هذا الجانب هو يذل نفسه ويعبِّدُها للطاغوت ويخسر الكثير الكثير الكثير.
إن الغاية الأولى من رسالة الله ورسله إلى عباده هي تعبيد الناس لله وربطهم في كل شؤونهم، في كل أمور حياتهم بالله جل شأنه برحمته بحكمته بملكه هذه غاية مهمة للرسل والأنبياء: تعبيد الناس لله وفي الوقت نفسه يترتب على هذا تحرير الناس من عبوديتهم للطاغوت، تحرير الناس من عبادة الطواغيت؛ لأن الإنسان كلّما ابتعد عن عبوديته لله فإنه يمعن في تعبيد نفسه للطاغوت، وليس حرًّا من جعل نفسه عبدًا للطاغوت، إن الله جل شأنه يقول في القرآن الكريم: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمة رَسُولًا أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)[النحل:36].
لأنه هكذا لا تتحقق العبودية لله بشكل صحيح - عبودية شاملة في كل شؤون الحياة، طاعة كاملة في كل مجالات الحياة - لا يتحقق هذا إلا باجتناب الطاغوت؛ لأن الطاغوت سواء كان رئيسًا أو ملكًا أو قائدًا أو تحت أي عنوان أو يحمل أي مسمى هو يصدّ الناس عن عبادة الله ويعبِّدهم لنفسه ويفرض عليهم إرادة نفسه فيما يخالف الله وفيما يضر بالناس؛ ولذلك يقول الله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا)[البقرة: 256].
لا يتحقق أن يعبِّد الناس أنفسهم لله - ومن أساس العبادة إيثار الطاعة، الطاعة لله أن تكون فوق كل طاعة وفي كل ما أمر الله به وفي كل ما أرشد الله إليه - ولا تتحقق هذه في واقع الناس إلا باجتناب الطاغوت والكفر بالطاغوت ومواجهة الطاغوت.
ثانيا ـ تربية الإنسان ليكون بمستوى تحمل المسؤولية
من أهم الغايات في الدين، وفي رسالات الله سبحانه وتعالى هي تحمل المسؤولية، تربية الإنسان حتى يتحمل المسؤولية وليعرف أنه إنسان مسؤول له دور مهم في الحياة، وأتباع الرسالة الإلهية، من ينتمون للإسلام، من يدَّعون الإيمان لهم مسؤولية حمَّلهم الله إياها وهي مسؤولية عظيمة مشرّفة يحظون من خلالها بأن يكون الله معهم وأن ينصرهم وأن يعزهم وأن يمكّنهم في أرضه، وإذا تخلوا عنها يكون نصيبهم الخذلان والضعف والعجز والوهن وتتسلط عليهم الأمم؛ ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا أمة الرسالة، أمة محمد، أتباع محمد، المنتمين إلى دين محمد‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم›: (كُنْتُمْ خَيْرَ أمة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)[آل عمران: 110].
هكذا أراد الله لأمة الرسالة أن تكون أمة مسؤولة: آمرةً لكن تأمر بالمعروف وتحقق المعروف وتسعى لإقامة المعروف واقعًا في الحياة، أمة ناهية تنهى عن المنكر وتزيل المنكر وتطهر ساحتها الداخلية ومجتمعها الداخلي من المنكر، ثم تنهى الأمم الأخرى عن المنكر، وتصلح في عباد الله وتصلح في أرض الله، ولن يحمّل الله أمة الرسالة هذه المسؤولية ويتخلى عنهم، لا. بل ويكون هو معهم، يكون هو وليّهم، يكون هو ناصرهم، يكون هو من يمكّن لهم، يكون هو من يقذف الرعب في قلوب أعدائهم.
ثالثا ـ إصلاح الإنسان وتربيته وتأهيله
وغاية أخرى من الرسالة الإلهية هي إصلاح الإنسان وتربيته والارتقاء به وتكريمه وهدايته؛ ولذلك يذكِّرنا الله بعظيم النعمة علينا - نحن العرب - حينما يقول: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الجمعة: 2-4].
ولأن أمتنا في هذا العصر فقدت تفاعلها مع رسالة الله ودينه ونبيه فقد خسرت العدل، وغرقت في الظلم، وفقدت زكاء النفوس وكان البديل هو الانحطاط والسوء، وفقدت الحكمة وكان البديل هو الغباء والتخبط في المواقف والعشوائية في العمل واللغو في الكلام.
وعندما نعرف أن الغاية والهدف هو هذا العدل والخير والسعادة وزكاء النفوس والسمو بالإنسان والوصول به إلى خير الدنيا والآخرة، ونجاته من الشر في الدنيا والآخرة، نعرف أن الرسالة والدين والرسل من مظاهر رحمة الله بعباده؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].
من رحمة الله جل وعلا أن يجعل لعباده من يربيهم التربية العظيمة فتزكو نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتُقَوَّم سلوكهم، وتُسَدّد أقوالهم، فيكون الإنسان على مستوى عظيم يليق بما أراد الله له أن يكون عليه، إنسان ذو قيم، ذو مُثُل، يتحلى بالجميل من الصفات والكريم من الأخلاق، فيكون الإنسان عظيمًا بعيدًا عن الدنس والهوان، فهذا من مظاهر رحمة الله جلَّ وعلا.
رابعا ـ إقامة القسط في الحياة:
من الغايات المهمة لرسالة الله إلى عباده عبر كل الرسل والأنبياء وحتى خاتمهم النبي محمد ‹صلى الله عليه وعلى آله وسلم›: إقامةُ القسط والعدل في الحياة.
إن من القيم الرسالية العظيمة: العدل الذي هو أساس لاستقرار الحياة، وهو ركيزة أساسية في رسالات الله؛ ولذلك سعى الأنبياء العظام على مر التاريخ لإقامته في الأرض، وتبعهم في ذلك ورثتهم الحقيقيون وأتباعهم الصادقون عبر الأجيال، وإقامته مسؤولية أساسية على الناس قال الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[الحديد:25].
هذا هو من أهم الأهداف التي هدفت إليها رسالة الله ومن أهم الغايات هو هذا الجانب: إقامة القسط في الحياة، إقامة العدل حتى يتحقق العدل في حياة الناس، حتى يزول الظلم وحتى تتم هناك إزالة سيطرة الظالمين واستحكامهم على حياة الناس.
هذا الجانب للأسف هو كمسؤولية فرّط الناس فيها؛ لأن رسالة الله تبقى مسؤولية على أهلها، على أتباعها ليقيموها، ليتحركوا على ضوئها، ليقوموا بمسؤوليات عظيمة أُسنِدت إليهم فيها مع ذلك يكون الله معهم وينالون الشرف العظيم.