محمد نبيل اليوسفي
في ظلِّ لحظةٍ استثنائيةٍ تُطرح ما بين خيارَينِ: الأول يترتب حسبَ الانتظار إلى ما بعد الشروطِ التي تمَّ الاتّفاق عليها بوقفِ إطلاق النارِ الإسرائيليِّ وإدخَال المساعداتِ والانسحاب الكاملِ من غزة، والآخر يترقّبُ الخروقاتِ الإسرائيليةَ إلى أي مدىً ستصلُ أهدافها.
وتبرزُ في ظلِّ هذهِ اللحظةِ الاستثنائيةِ معطياتٌ جديدةٌ تُشيرُ إلى قراراتٍ "جغرافية" هندسها كيانُ الاحتلال في ظلِّ قيادةٍ أمريكيةٍ، هادفين إلى تقسيمِ غزة لكياناتٍ متعددةٍ تحت قوةٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، حَيثُ تشملُ هذه الدولَ مصرَ والسعوديّةَ والإمارات وقطرَ وتركيا، مدّعين بذلك فرضَ استقرار دوليٍّ في غزة، وما يُشير إلى ذلك أنها مُجَـرّد لُعبةٍ أمريكيةٍ ودوليةٍ تعملُ لصالحِ كيانِ الاحتلال فقط.
حيث إن التطبيعَ العربيَّ الإسلاميَّ الذي يأتي اليومَ جليًّا عما كان يُعقدُ مع كيانِ الاحتلال والولاياتِ المتحدةِ الأمريكيةِ من علاقاتٍ تدريجيةٍ خلفَ الكواليس، وحَـاليًّا أصبح علنيًّا للعالمِ أجمعِ؛ وإنْ ما زالت ترتدي لبعضِ الشعاراتِ البراقةِ فهي لم تُمثّلْ نفسها هذهِ الأنظمة المطبعةَ سوى أدَاة طيعةٍ لدى كيانِ الاحتلال تُستخدمُ لصالحِ مشاريعهِ الاستيطانيةِ دونَ المراعاةِ لا للقضيةِ ولا للمقدسات.
إن الأنظمة العربيةَ التي تعملُ اليومَ بموجبِ القيادةِ الأمريكيةِ والهندسةِ الإسرائيليةِ تحت عناوينَ براقةٍ وإنسانيةٍ كمثلَ إعادة هيكلِ الإعمارِ في غزة وبناءِ أمنٍ داخليٍّ وإعادة البنيةِ التحتيةِ وغيرها من المواردِ، تحملُ ورائها أيديولوجيةً ممنهجةً لنزعِ سلاحِ المقاومةِ الفلسطينيةِ وتقسيمِ غزة مناطقيًّا.
فقد أصبحت هذهِ اللعبةُ مكشوفةً من قبلِ الأنظمة العربيةِ المطبعةِ والداعمةِ للكيانِ تحت هذهِ التحَرّكاتِ التي هي مركبةٌ كصورةٍ إنسانيةٍ وحقيقتها من خلفِ الستارِ استعماريةٌ لصالحِ هيمنةٍ "صهيو–أمريكية".
كما أن المقاومةَ الفلسطينيةَ هي ما تزالُ صاحبةَ الأرض والحقِّ والقضيةِ والقرارِ على الواجهةِ الأولى، وما سيتعلقُ بغزةَ - كان شرًّا أم خيرًا - فهو من شأنِها لكونِها الحصنَ المنيعَ عن حقِّها ومشروعِها المتصدّي لكيانِ الاحتلال بكلِّ صمودٍ وعنفوانٍ وإرادَة تستمدُّ قوّتها من عقيدتِها وإيمانِها المطلقِ بأنّ الحقَّ لا يهزمُ والقضايا العادلةَ لا تنكسرُ أَو تُرمَّمُ بأقنعةِ الخداعِ على أروقةِ السياسةِ التي تهدفُ إلى تشويشِ القضايا العادلةِ وترسيخِ الهزيمةِ النفسيةِ وصناعةِ من الباطلِ غايةَ سلام.
إن المقاومةَ الفلسطينيةَ ترمي بالقراراتِ الإقليميةِ والدوليةِ، وعلى رأسِها القيادةُ الأمريكيةُ والهندسةُ الإسرائيليةُ، على أروقةِ المحافلِ الدوليةِ برمّتها، لكونِها لا تعملُ إلا على تهميشِ القضيةِ الفلسطينيةِ وتمريرِ معاناةِ غزة بتصريحاتِها العابرَةِ وعدمِ جدّيةِ الحزمِ باتّجاه ما يفعلهُ كيانُ الاحتلال المجرمُ بحقِّ غزة وفلسطينَ على مرّ عقودٍ من الزمنِ وسجلاتِ التاريخِ تؤكّـد ذلك بكلِّ وضوح.
حيث إن قراراتِ مجلسِ الأمنِ الدوليِّ وغيرها من المماطلةِ التي لم تواجهْ من قبلِ كيانِ الاحتلال الإسرائيليِّ والفيتو الأمريكيُّ إلا بعدمِ الالتفات لها أَو حتى التعبيرِ عنها كصاحبةِ قرارٍ، فهي حتميًّا من تُضاعفُ معاناةَ المشكلةِ بوتيرةٍ أوسعَ على الواقعِ الجاري على قلبِ قطاعِ غزة، وليس كما يدّعي مجلسُ الأمنِ بالحقوقِ وغيرها؛ حَيثُ ما هو الأرجحُ للمقاومةِ في ظلِّ هذهِ المرحلةِ المرهونةِ بدمائهم ودماءِ شعبِهم أنها لم تكن سوى التمسكِ بلغةِ القوةِ التي لم تكن إلا هي الحلُّ المناسبُ لردعِ هذا الكيانِ الغاصب.
إن المقاومةَ الفلسطينيةَ على أرضِ غزةَ اليوم هي من تُعتَبَرُ خندقَ المواجهةِ الأول، ليس للدفاعِ عن أرضِ فلسطينِ فحسب؛ بل عن الأُمَّــة بأكملِها، وهذه المقاومةُ الباسلةُ والصامدةُ لسنينَ من التضحياتِ الجسيمةِ التي قدمتْها فداءً لهذهِ القضيةِ المرهونةِ تحت ظلِّ معركةٍ تُهدّد الوجودَ والهُـويةَ، فهي اليوم ليست مستعدةً أن تُضحّي بكلِّ ما قدّمتهِ إسنادًا لهذهِ القضيةِ هدرًا.
كما أن المقاومةَ أَيْـضاً على مرِّ التاريخِ كانت من المواجهةِ، ليست بمعزلٍ عن قياسِ مدى حقدِ وكراهيةِ وألاعيبِ أعدائها الصهاينةِ والمتصهينينَ من الأعرابِ من حولِهم، وإنما كانت تُعَدّ العُدّةَ للمواجهةِ الشاملةِ، التي تُعتبرُ اليوم معجزةً إلهيةً أرضختِ الأعداء وأفشلتْ مساعيهم.
أيضًا كانت تُدركُ مدى تبعاتِ هذا الجهادِ الذي من خلالهِ توسعت دائرةُ المتربصينَ بها من كُـلّ جانب، إلا أن المقاومةَ كانت تأبى أن تُلطّخَ أرضَها ومقدساتِها على مصيرِ الإجرام الصهيونيِّ وداعميه؛ بهَدفِ تغييرِ الهُـويةِ الدينيةِ واحتلال الأرض المقدّسةِ وإحلالِ شعبٍ آخر في مكانِها.
إن وجودَ المقاومةِ الفلسطينيةِ اليوم على أرضِ غزةَ وفلسطينَ وفي كُـلّ أزقّتِها؛ فهي من تمثلُ الأمنَ القوميَّ للاستقرار والحريةِ والعدالةِ السياديةِ الأبديةِ في الدولةِ الفلسطينيةِ. رغم أن الواقعَ مرهونٌ تحت ظلِّ عدوانٍ يقطعُ حتى الهواءَ، إلا أنها حاضرةٌ على أرضِها، ولو لا وجودُها لحتُلتِ الأرض ولضاعتِ القضيةُ تحت وطأةِ قوى الهيمنةِ والاستكبار الصهيونيِّ وشركائِه في المنطقةِ.
حيث إن كُـلّ فلاسفةِ ومفكرينَ وسياسيينَ وكلَّ عباقرةِ السياسةِ والرؤى اليوم: فهم ليس باستطاعتِهم تهميشُ وإنكار أنَّ حماسَ لم تكن اليوم مقاومةَ الغزاةِ المحتلّين والمجلوبين من كُـلّ أقطارِ الأرض غربيًّا وشرقيًّا؛ بهَدفِ الاحتلال للأرضِ الفلسطينيةِ وإحلالِ شعبٍ آخر على دولةِ فلسطينِ العربيةِ ومن ثم تغييرًا جذريًّا لتاريخِها ودينِها وهُـويتها القرآنية.
فالواقعُ لما يحدثُ اليوم في سوريا التي أصبحت رهينةَ الجولاني وعصاباتهِ التكفيرية وبين مخالبِ الكيانِ الذي دفعَ بهذه العصابةِ كأدَاة هندسيةٍ وصُممت لعقودٍ باسمِ الدينِ الكاذبِ - لتحتلَّ اليوم أهل الدينِ الحقيقيِّ - فهو ما يريدونَه اليوم أن يحدثَ في غزة؛ إذ نُزعَ سلاحُ المقاومةِ التي تأبى أن تُسلمَ سلاحًا دافعًا عن حقِّها لعقودٍ وحتى ولو في ظلِّ سلطةٍ فلسطينيةٍ.
فَسوريا التي صارت دون مقاومةٍ تدافعُ عنها اليوم أصبحت سلعةً مستباحةً في يدِ الاحتلال الهادفِ لاحتلال غزة أَيْـضاً، ولا سلامَ إلا في ظلِّ السلاحِ والمقاومةِ وبلغةِ القوةِ.
إن البلدَ الذي لم يعشْ تحت ظلِّ مقاومةٍ تمتلكُ السلاحَ فهو من سيصبحُ حتمًا بلدًا محتلًّا في قبضةِ الغزاةِ، أما بلدٌ يمتلكُ السلاحَ والمقاومةَ والمعنويةَ والإرادَة من صميمِ عقيدتِه المنتمي إليها فهو من سيصبحُ دونَ ريبٍ بلدًا يعيشُ في ظلِّ الحريةِ والعدالةِ والاستقرار الدائم.




.jpg)
