بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:102ـ104) .
عرفنا [في الجلسة السابقة] تفسير هذه الآيات ووصلنا إلى قولـه تعالى:{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية103 هكذا يكون بيان من الله سبحانه وتعالى، من منطلق رحمته بكم، وأنه لا يريد لكم أن تُظلموا، ولا يريد لكم أن تكونوا كافرين، ولا يريد لكم أن تعودوا على شفى حفرة من النار كما أنقذكم منها أول مرة فتعودون إليها من جديد، إذاً فالله سبحانه وتعالى عندما يبين لنا يبين لأنه رحيم بنا، من منطلق رحمته، وهذا أهم ما رسخه القرآن الكريم هو: أن الله [رحمن رحيم]، وأن الله رحيم بعباده، فلأنه رحيم بعباده يهديهم، يبين لهم آياته، ويسميها آيات ؛لأنها علامات على حقائق، حقائق لا تتخلف، حقائق لا يمكن أن تتخلف عن أن تحصل نتائجها سواءً كانت سلباً أو إيجاباً.
فمتى ما تفرقتم، متى ما توانيتم وقصرتم في مواجهة أهل الكتاب فقد ترتدون بعد إيمانكم كافرين، وقد تعودوا إلى شفى حفرة من النار.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية103) تهتدون إلى ما أنتم في حاجة إلى أن تهتدوا إليه، ألا نشعر بالحاجة الماسة إلى أن نهتدي إلى ما به نحافظ على أنفسنا أن نبقى مسلمين، إلى ما به نبتعد عن أن يحوّلنا أهل الكتاب إلى كافرين بعد إيماننا. نهتدي إلى ما به نبتعد عن النار التي قد كنا على شفى حفرة منها، هل هناك حاجة إلى هذا أم لا؟. أنا لست بحاجة إلى أن أهتدي حتى لا أتحول إلى كافر ! ما الذي سيحصل إذا أصبحت كافراً !؟. هل الكفر مشكلة كبيرة أم لا!؟.
الناس في الدنيا يرون بعض الأشياء مشكلة كبيرة جداً وغايتها ما هي؟. النتيجة منها التي ترعبهم ما هي؟. قد يكون إما سجن أو يخسر قليلاً من المال، أو وجع في رأسه، أو مغص في بطنه، هل نعتبرها مشاكل؟. أو قد تكون في نظره مشكلة كبيرة لأنه قد تُؤخذ عليه قطعة أرض، أو قطعة [مَشْرَب] لقطعة أرض، أو تصبح مشكلة كبيرة عليه إذا لم يشاجر خصمه بعنف ويبذل كل أمواله في سبيل أن لا تخرج من تحته تلك القطعة من الأرض، حتى وإن كانت حقاً للآخر، فتصبح مشكلة لديه تشغله وهو يأكل، تشغله وهو يصلي، تشغله وهو متوجه إلى فراشه للنوم، تشغله وهو يمشي.
أليست هكذا تحصل الأمور بالنسبة للذين يشاجرون على قطعة [مَشْرَب] أو على أشياء من هذه؟، تصبح مشكلة لديه كبيرة تشغل بَالَه وتأخذ كل تفكيره وكل اهتمامه، فيعيش البعض في حالة تقشف، ويحاول عندما يطلع وينزل إلى المحكمة يحاول أن يصبر على أن يأكل أكلاً كيفما كان من أجل أن يستطيع أن يواصل شريعته وشجاره مع خصمه، من أجل أن [لا يربطه غَرِيْمَه] -كما نقول- يواصل لأن تلك مشكلة كبيرة لديه.
نقول: أليست مشكلة كبيرة أن تقع في حالة يمكن أن تؤدي بك إلى جهنم؟، أليست هذه مشكلة كبيرة؟، هل هناك شيء أشد من جهنم؟، هل هناك شيء أسوأ من جهنم؟، من عذاب النار؟، من عذاب الحريق؟.{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(آل عمران: من الآية103) إذا كانت تهمكم أنفسكم فتبحثون عما يهديكم إلى ما فيه نجاتكم فلا تُظلمون في الدنيا، ولا تصيرون إلى ما تستوجبون به عذاب جهنم في الآخرة.
ثم أي طرف في الدنيا أي جهة في الدنيا يمكن أن تكون أكثر رحمة بنا من الله سبحانه وتعالى؟. هل هناك أحد؟. وإذا افترضنا أن هناك من هو رحيم بنا، فهل هناك من يستطيع أن يهدينا كما يهدينا الله سبحانه وتعالى ؟. لا. قد ترحمك أمك، قد يرحمك أبوك، قد يرحمك إخوانك، قد يكونون حريصين على نجاتك، حريصين على سلامتك، لكن لا يمتلكون علم الغيب، لا يمتلكون ما يستطيعون به أن يرسموا لك طريق الهداية التي تعتبر حقائق لا تتخلف، بل قد يحصل العكس، قد توجهك أمك أو يوجهك أبوك أو أخوك إلى الترك، أن لا تتحرك في قضية يكون في الواقع سلامتك وهدايتك وعزتك ونجاتك في أن تتحرك فيها، فتنطلق أمك من باب العاطفة من باب الرحمة فتقول: [اترك ذلك يا ولدي، لا تثير على نفسك المشاكل، لا تضيع مالك، لا تضيع وقتك، انطلق في شغلك وعملك].
أليست تتحدث من منطلق الرحمة، لكنها لا تستطيع أن ترسم لك الهداية الحقيقة، لا تستطيع مهما كانت رحيمة، فبالنسبة لله سبحانه وتعالى تجتمع أشياء كثيرة: رحمته العظيمة بنا، وعلمه فهو الذي يعلم السر في السماوات والأرض، يعلم الغيب والشهادة، علمه كيف يهدينا وما هو الذي فيه هدايتنا؟. ولهذا يتحدث بأن ما يهدينا إليه هو آيات. معنى آيات: أعلام على حقائق، حقائق لا تتخلف، حقائق هي تمثل إذا سرتم عليها وفي طريقها هدايتكم، فآياته أعلام على حقائق نمشي وراء هذه الأعلام لنهتدي بها، ولا بد أن تحصل -إذا ما مشينا مهتدين بها- لا بد أن تحصل تلك الحقائق من وراءها، سواء ما كان منها في الدنيا من عزة ومكانة وشرف ورفعة واستقامة، وبالنسبة للآخرة الفوز العظيم بالجنة، أليست هذه هي الهداية الحقيقية؟.
عندما يهدينا هو يهدينا إلى ما نحن في أمس الحاجة إليه في الدنيا قبل الآخرة، هذا شيء مؤكد، الثمرة ليست مرتبطة بأنه فقط ثمرتها هي الجنة ولا شيء قبلها، بل يهدينا إلى ما نحن في أمس الحاجة إليه في الدنيا ؛كي لا نُظلم، لا نُذل، لا نُقهر، لا نصبح جنداً للشر والباطل، لا نصبح عبيداً للشيطان، أليست هذه أشياء تهم الإنسان أن لا يقع فيها؟. وعلى الرغم من ذلك أيضاً يكتب لنا أجراً على كل ما نسير فيه مما نحن في أمس الحاجة إليه فيكتب لنا أجراً عليه، ويكتب لنا الفوز بالجنة، وما أعظم الجنة، وما أعظم رضوان الله الذي هو أعظم من الجنة. أليست هذه هي منتهى الرحمة؟. ولهذا قال تعالى:{فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران: من الآية107) كما سيأتي بعد في هذه الآيات، هذه هي الرحمة.
أمك أبوك خالك جدتك أي واحد من أقاربك أي شخص يهمه أمرك لو انطلق بكامل الإخلاص فلن يستطيع أن يهديك على هذا النحو، ومتى ما هداك فإنه لا يملك لك شيئاً من بعد، لا يملك جنة ولا يملك ناراً، وقد لا يملك فعلاً أنك متى ما سرت على النحو الذي هداك إليه أنه سيقف معك بكل ما يملك، قد يكون مجرد نصح فقط، أما الله فقد وعدك أنك عندما تسير على ما هداك إليه فإنه سيقف معك، وسيؤيدك، وسينصرك، وسيهديك، ويوفقك، ويرعاك، ويرشدك.
الإنسان إذا تأمل لا يجد أي طرف إطلاقاً يمكن أن يهديه كهداية الله، لا يمكن أبداً، و لا يتحقق له من أي طرفٍ مهما كان ناصحاً له كما يتحقق له على يد الله سبحانه وتعالى.
ولأن الآيات هي في سياق الحديث عن أهل الكتاب وعن أعمالهم الخبيثة وخططهم الماكرة، بدأ التوجيه نحو الهداية من الأمر بتقوى الله حق تقاته، ثم الاعتصام بحبله، ثم ماذا؟. {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104) في طريق أن تكونوا بمستوى أن تواجهوا أهل الكتاب لا بد أن تؤهلوا أنفسكم فتتحركوا أولاً في مجال إصلاح المجتمع من الداخل لأن أهل الكتاب سينفذون إلى داخلكم إلى أعماق بيوتكم، إلى أعماق نفوسكم. فلا بد أن تكونوا معتصمين بحبل الله جميعاً. ثم تنطلقون بشكل جماعي -بعد أن تؤهلوا أنفسكم وتجعلوا من أنفسكم أمة قادرة على أن تتحرك في الداخل أولاً- في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لا تتصور أبداً بأن معنى المسألة في مواجهة أهل الكتاب هو: أن تتجه بعينيك إلى [نيويورك] أو إلى إسرائيل أو إلى [لندن] أو [باريس] أو نحوها، بل من هنا العمل يبدأ في مواجهتهم من هنا من الداخل ؛لأنهم -وهم في مجال أن يضربوا الأمة- يتغلغلون إلى داخلها بمختلف وسائلهم الخبيثة، ويسعون في الأرض فساداً فساداً ثقافياً، فساداً أخلاقياً، فساداً اقتصادياً، فساداً في البيئة، فساداً في كل مجالات الحياة.
إذاً فلا بد للأمة -وهي في طريقها إلى أن تؤهل نفسها لتكون بمستوى مواجهة أهل الكتاب، وفي مجال أن تحصّن نفسها من خبث أهل الكتاب حتى لا تتحول إلى أمة كافرة، إلى أمة مرتدة بعد إيمانها - سواء الأمة على مستوى الأمة أو أي مجتمع داخل هذه الأمة لا بد أن تتحرك في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير، وإلا فماذا؟. قد تكون أنت تفكر بأنك تجهز قطعاً عسكرية لتضرب [واشنطن]، وهم يضربونك في داخل كل بيت من بيوت مجتمعك، هذا لا يتأتى، وهذا هو ما حصل فعلاً، أليس هذا هو الحاصل؟.
تعقد الدول صفقات أسلحة للسعودية لليمن لمصر لهذه الدولة ولهذه الدولة صفقات أسلحة طائرات دبابات، كل مرة نسمع بصفقة أسلحة، لكن من الذي سيحرك هذه الأسلحة؟. بدأً من الكبير من الرئيس أو الملك إلى آخر شخص في المجتمع من هو؟. لقد ضُربت الأمة من الداخل.
والأمر بالمعروف لا يعني فقط أن تقول لفلان: يغطي ركبته فقط!، بل بكل ما هو معروف، بكل ما الأمة بحاجة إلى أن تهتدي به، أن تتحلى به أن تمتلكه، أن تعمل به في مجال السياسة في مجال الاقتصاد، في مجال الأخلاق، في كل مجالات الحياة، في كل مجالات الدين.
المعروف باب واسع جداً، إن من المعروف أن نقول للآخرين: إن عليكم أن تهتموا بالجانب الاقتصادي فتجعلوا الشعوب قادرة على أن تقف على أقدامها مكتفية بذاتها فيما يتعلق بقوتها الضروري؛ لتستطيع أن تقف في مواجهة أهل الكتاب، أليس هذا من المعروف؟. ليس المعروف فقط كما نتصور، حتى أصبح هذا المبدأ العظيم مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني فيما يتعلق بأشياء بسيطة، بسيطة جداً مثل [غلِّق المسجلة، غَطّ ركبتك]. ألم يصبح هكذا؟، تقريباً تنتهي إلى هذا مسألة الأمر بالمعروف!
ولهذا نحتاج إلى أن تكون هناك أمة، أن يؤهل الناس أنفسهم إلى أن يصبحوا أمة قادرة على أن تدعوا إلى الخير تحت عنوان (الخير) بمفهومه الواسع، وأن تكون أمة تأمر بالمعروف تحت هذا العنوان الواسع، وتنهى عن المنكر بعنوانه الواسع، هذه ثلاثة عناوين واسعة جداً، ثلاثة عناوين مهمة هي تشمل كل مجالات الحياة، سواء ما كان من وجهة نظرنا لا نراه متعلقاً إلا بالدنيا، وما كان منها متعلقاً بالدين.
إذا تتأمل الإنسان في هذا يجد أنها هداية حقيقة، فتجعلك تثق بالله، يجعل الإنسان يثق بأن الله يضع الخطط الحكيمة للأمة لتمشي عليها. وهو يعلم ما سيعمل أهل الكتاب، وكيف ستكون أساليبهم، وأنهم سيغزون الأمة من الداخل فيجعل الأمة تقف مستسلمة أمامهم، طائعة لهم، متولية لهم، كبارها جنود لهم، وصغارها ضحية لفسادهم، فتتجمد وتتعطل كل وسائل القوة الأخرى.
البترول في الأرض يصبح لا يمثل ما يمكن أن يمثله من آلة ضغط عليهم، هذه الخيرات المنتشرة في معظم البلاد الإسلامية لا تعد تمثل وسيلة للضغط على دول الغرب: اليهود والنصارى، هذه الأسلحة المتطورة التي يمتلكها هذا الشعب وهذه الدولة وتلك الدولة أصبحت قطعاً متجمدة لا معنى لها لا قيمة لها، بل ستصبح قطعاً تتحرك بفاعلية في خدمة أمريكا وإسرائيل لضرب الشعوب نفسها! أليس هذا من الدهاء اليهودي؟. أليس هذا من الخبث اليهودي الشديد؟.
وفعلاً كم وجدنا أن الأسلحة العربية والجيوش العربية تحركت لخدمة أمريكا وإسرائيل -سواءًً من حيث تشعر أو لا تشعر- عندما تحركت جميعاً في مواجهة [الثورة الإسلامية] في "إيران" ومواجهة [الإمام الخميني]، الذي برز كأعظم قائد يحمل أفضل نظرة منبثقة من القرآن الكريم في مواجهة اليهود والنصارى، تتحرك جيوش من مختلف الدول العربية، وقطع عسكرية من مختلف دول العالم، قطع أسلحة تتحرك في مواجهة هذه الدولة المسلمة وهذه الثورة الإسلامية ! فتكون النتيجة في الأخير هي أنهم حموا إسرائيل من أخطر جهة كان يمكن أن تواجهها في هذا العصر، كان يمكن أن تقضي عليها فعلاً، كان يمكن أن تقضي على إسرائيل.
وكان [الإمام الخميني] رحمة الله عليه يرفع شعار: ((أن إسرائيل غُدّة سرطانية يجب أن تُسْتَأصَل))، وكان فعلاً جاداً في أن يستأصل هذه الغُدّة، لكن العرب الذين يصرخون الآن من إسرائيل، العرب الذين تحولوا إلى جنود لإسرائيل هم الذين وقفوا في وجه ذلك القائد العظيم، وذلك الشعب العظيم، وتلك الثورة العظيمة؛ لتقف إسرائيل محميّة دون أن تخسر شيئاً، ومتى ما انتهى خطر ذلك الشبح المخيف تستمر إسرائيل في عملها، لا ترعى -على أقل تقدير- لا ترعى جميلاً: أن هؤلاء خدموها فتتعامل معهم بوداعة وسلام،لم يحصل هذا.
{هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ }(آل عمران: من الآية119) مهما عملتم لهم لن يقدروا لكم جهودكم، لن يرعوا لكم جميلاً، لن يكافئوكم بإحسان، وهذا ما حصل، وهذا الذي نشاهده الآن، أما كان من المفترض أن إسرائيل ترعى ذلك الجميل لهذه الدول العربية التي انطلقت لتقف بدلاً عنها في مواجهة [الثورة الإسلامية] و[الإمام الخميني] فتزيح ذلك الخطر عن وجهها، أما كان من المفترض أن إسرائيل تتحول إلى دولة مسالمة؟، دولة تهتم بأمر العرب وشأنهم.
[لاحظ العرب]كانوا يقولون: لا بد من تحرير فلسطين حتى آخر ذرة من تراب أرض فلسطين، ثم أصبحت المسألة بالعكس سيخدمون إسرائيل حتى آخر ذرة، وآخر جندي من أبناء أوطانهم، لكن تحت عناوين أخرى، اليهود هم يعرفون كيف يرسمونها، وكيف يشغِّلون الأمة ويشغِّلون الشباب في التحرك تحتها.
إذاً فإذا غاب العمل على تصحيح الوضع من الداخل تحت العمل في إطار الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلن تقف الأمة على قدميها أبداً ً مهما امتلكت من أسلحة في مواجهة اليهود والنصارى ؛لأن هذا الأمر أتى في إطار وضع الخطة الحكيمة والمستمرة التي تؤهل الأمة لمواجهة أهل الكتاب اليهود والنصارى، سواء في حماية أنفسهم منهم كي لا يتحولوا إلى كافرين مرتدين بعد إيمانهم أوفي رفع ظلمهم عنهم، وفي قطع أيديهم عن بلدانهم، لا بد من تفعيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير.
لكن ما الذي حصل؟.
من جَنى على هذا المبدأ هم الفقهاء أنفسهم، من جنى على هذا المبدأ نفسه هم أصحاب [أصول الفقه]، وأصحاب كتب [علم الكلام] والفقهاء أنفسهم، الذين حولوا المسألة إلى مسألة فردية فقالوا: أنت يجب عليك شخصياً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. متى؟. قال: متى ما ظننت التأثير، متى ما امتلكت القدرة أو ظننت التأثير ما لم فليس عليك شيء.
فجعلوا كل شخص ينظر إلى هذا الواجب العظيم، وهذا المبدأ المهم، وهذه الهداية الربانية العظيمة، كل شخص ينظر إليها بنظرة فردية ومن منطلق ذاته واستطاعته أو عدم استطاعته، وكل شخص منا سيرى نفسه في الأخير عاجزاً عن أن يعمل شيئاً، أليس هذا الذي سيحصل؟، فلنكن عشرة آلاف في منطقة سيرى كل شخص نفسه عاجزاً عن أن يعمل شيئاً، فيقول: إذاً ارتفع الوجوب عني، إذاً أنا لا أستطيع، والثاني يقول كذلك، والثالث كذلك، والرابع كذلك، وهكذا.
ناسين أن القرآن وأن الله يقول: أنه في تحقيق هذا الأمر من المعلوم أنه لا يتأتى -وهو الشيء الطبيعي والغالب- إلا بأن يتحرك الناس بشكل جماعي متوحدين؛ لذا فعليهم أن يؤهلوا أنفسهم ليصبحوا أمة فإذا كانوا أمة كانت قادرة حينئذٍ على هذه المهمة، عندما يتوحدون، عندما يكون منهجهم واحداً، عندما يكون منهجهم قائماً على الاعتصام بحبل الله مجتمعين، عندما يكونون صادقين متعاونين فيما بينهم حينئذٍ سيصبحون أمة قادرة على أن تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ثم بعد هذا طبِّق هذا المبدأ على أفراد هذا المجتمع المتوحد فقل له: يجب عليك إذا استطعت، ما لم فلا حرج عليك،سيقول لك: نعم إنه مستطيع لأنه قد صار أمة.
ولكن بعد أن جعله الفقهاء واجباً فردياً عندما تقول لشخص :هذا الأمر واجب عليك أنت شخصياً إن استطعت، سيقول :أنا لا أستطيع، وبعده تقول للثاني، ثم تعزل الثالث بعده، والرابع بعده حتى تخرج من آخر الصف ولا يوجد أحد يستطيع، كل واحد يقول: [والله أنا ما أستطيع، أنا ارتفع الوجوب عني، ولي عذري عند الله].
هكذا انطلق فقهاؤنا، انطلقت القواعد التي تسمى [أصول فقه] لتوجه كل الخطاب الذي هو في القرآن خطاب جماعي للأمة توجهه إلى الفرد، بينما الفرد يجب عليه أن يتحرك في إطار أمة في تأهيل نفسه والآخرين ليكوِّنوا صرحاً شامخاً بأمة كاملة.
انطلقت أشياء لتخاطب الأفراد كأفراد، وكل شخص يرجع إلى نفسه سيرى نفسه عاجزاً ثم يقول لله: [أنا لا أملك شيئاً، أنا لي عذري عندك فمع السلامة]!
الله يقول هنا: ولتكن منكم أمة يعلم أن كل فرد بمفرده لا يستطيع أن يعمل شيئاً، أحياناً يحتاج الإنسان هو في تربية أسرته في الداخل في تربية أولاده إلى من يعينه من الآخرين على تربية أولاده، على تنظيم شئون أسرته حتى تكون أسرة منضبطة.
ثم لأن المسألة في مقام الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابد أن تكون بشكل واعٍ، وخطة واحدة، ومنهج واحد، وأسلوب واحد، وعمل واحد، وإلا فهو من المنكر أن تتحرك أنت بطريقتك الخاصة فتوجه توجيهات تعتقد أنها دعوة إلى الخير وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وآخر له خط آخر وأسلوب آخر ووجهة أخرى وثالث ورابع على هذا النحو وينزل في المجتمع ثقافات متعددة، وجهات نظر متعددة، دعوة إلى أشياء متعددة منهم من يرى أن هذا مهم بالغ الأهمية، ومنهم من يرى أن هذا لا معنى له من أصله، وكلٌ يخاطبك باسم الدين، ويخاطبك باسم النصيحة، فهذا سيصبح نفسه من المنكر ؛يؤدي إلى تفريق المجتمع، يؤدي إلى تباين وجهات نظره، يؤدي إلى تشتت وتعدد مواقفه وتباينها.
فلا بد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير أن يتحرك من قاعدة واحدة، من توجيهات واحدة، وخطة واحدة، وأساليب واحدة حتى يكون فعلاً أمراً بمعروف ونهياً عن منكر ودعوة إلى الخير بنَّاءة، تكون نتيجتها تصب في قالب تأهيل الأمة فيما يتعلق بوحدتها، وفيما يتعلق باهتماماتها بأمر الدين، وفيما يتعلق باهتمامها في مواجهة أهل الكتاب سواء في الداخل أو في الخارج.
قد تأتي أحياناً أساليب دينية تُقدم إليك سواءًً عن طريق خطب جمعة أو حلقات درس أو مدارس تقدم إليك الدين بشكل اهتمامات معينة تغيب أمامك الأشياء الأخرى المهمة، فيأتي آخر يتحرك إليك يطلعك على الأشياء التي يراها مهمة فهذا يقول هذه أشياء لا تشكل أي مشكلة هذه أشياء لا يُعد الاهتمام بها شيء ضروري، ما الذي سيحصل؟. أليس سيحصل تباين في المجتمع نفسه، منهم من يصدق هذا ويمشي على نهجه، ومنهم من يقبل من هذا ويمشي على طريقته،فيؤدي إلى ماذا؟ أليس يؤدي إلى خلخلة وحدة الأمة حتى وإن كانت قد توحدت، فإن هذه الأساليب المتعددة ستؤدي إلى ضرب وحدتها، وضرب كيانها فتخلخل صفها من جديد.
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}(آل عمران: من الآية104)أمرنا الله بهذه الصِّيغَة التي تعني الفاعليّة والعمل الجاد {ولتكن}، أليس هذا أمر مؤكد يجب أن تكونوا على هذا النحو أمة تتحرك، ويأتي بصيغة الفعل المضارع {يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وهذه من الصِّيَغ التي تفيد –كما يقولون- التجدد والحدوث التجدد والحركة المستمرة. الدعوة إلى الخير، يتحرك كل إنسان باستطاعته يدعو إليه، لكن في إطار الخطة، في إطار وجهة النظر الواحدة، وإلا فحَذَارِ حذار من دعوات إلى الخير بأساليب متعددة إلى أمر بمعروف بأساليب متعددة إلى نهي عن منكر بأساليب متعددة، من منطلق توجيهات متعددة، وإلا فكلما كان منها منفرداً عن الآخر فلا بد أن يكون له تأثيره المباين لتأثير الآخر، وما النتيجة؟. هي: تفريق كلمة الأمة تحت عنوان: دعوة إلى الخير وأمر بمعروف ونهي عن منكر، توجيهات تؤكد لنا ضرورة إصلاح المجتمع من الداخل وهذا ما يؤكد السنة الإلهية أن الله سبحانه وتعالى كما قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}(الرعد: من الآية11)
وبهذا نعرف نحن كيف نرد على أولئك الذين يقولون: [ماذا سنعمل نحن بإسرائيل وأمريكا، أمريكا تملك قوة جبارة، وتملك .. وتملك .. نحن ماذا سنعمل ضدها؟] نقول : اعمل على هذا النحو، ابدأ تحرك، لأن تبني أمة تكون مؤهلة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، متوحدة، معتصمة بحبل الله جميعاً، وسيحصل كل شيء مما تراه مستحيلاً سيحصل، المستحيل هو في نفسك أنت وليس في واقع الحياة، وليس فيما هدى الله إليه، أنت في نفسك التي لا تثق بالله، في نفسك العاجزة، في نفسك المهزومة، في نفسك الضالة التي لا تعرف كيف تعمل، هناك المستحيل، أما فيما يهدي الله إليه، أما في واقع الحياة، أما في السنن الإلهية، أما في السنن الكونية فليس هناك شيء مستحيل، إذا ما سرت على ما هداك الله إليه فسيصبح ما بدا أمامك مستحيلاً يصبح يسيراً وسهلاً.
ثم أليس من الدعوة إلى الخير ومن الأمر بالمعروف أن نتحرك، أن يتحرك علماؤنا يتحرك المتعلمون فينا يتحرك طلاب العلم، يتحرك كل من لديه فهم؟. إلى أن يكشف للناس خطورة هذا الواقع الذي نعيشه خطورة هذه المرحلة وهذه الأحداث التي نواجهها، ويدعون الناس جميعاً إلى كيف يجتمعون على كلمة واحدة، معتصمين بحبل الله جميعاً، أليس هذا من الدعوة إلى الخير ومن الأمر بالمعروف؟. أليس من النهي عن المنكر النهي عن أي ثقافة تخلق وجهات النظر المتباينة؟.، النهي عن تعدد الوسائل، والمؤسسات الثقافية -وإن كانت باسم الدين- التي تخلق آثاراً متباينة في الأمة وتفرق كلمة الأمة؟، أليس من النهي عن المنكر النهي عن تلك القواعد التي تخلق نظرة ضيقة وقاصرة، وتؤدي إلى عدم ثقة أو إلى نقصٍ كبيرٍ في الثقة بالله وبكتابه وبرسوله؟، من النهي عن المنكر أن ننهى عنها لأنها هي التي ضربتنا سواء كنا علماء أو متعلمين أو متعبدين أو دعاة نتحرك في الميادين ندعو الناس إلى الله ونحن في الواقع نجني على دين الله، ونجني على عباد الله ونفرق كلمتهم.
ميدان العمل أمامنا مفتوح، من يقول: [ماذا نعمل؟]. نقول له :ميدان العمل أمامك مفتوحٌ أمام الجميع مفتوح، المطلوب أن تتحرك لا أن تتساءل، ميدان العمل فيه ما يكفيك أن تعمل بكل قدراتك وبكل طاقاتك مهما كانت، فكيف تتساءل [ماذا نعمل؟] وكأنه ليس هناك ما يمكن أن نعمله، أليس هو يقول : ماذا نعمل؟، وكأننا قد أكملنا كل شيء.
ميدان العمل أمامك مفتوح من الآن أن تتحرك على هذا النحو، إذا كنت مؤمناً بالله، إذا كنت واثقاً بالله، إذا كنت واثقاً بكتاب الله، إذا كنت تعتبر هذه الآيات أعلاماً على حقائق واقعة، حقائق لا تتخلف، فتحرك وميدان العمل أمامك واسع، حاول أن تجعل من نفسك لبنة في صرح بناءٍ واحد متماسك، حاول أن تجعل من نفسك عنصراً فاعلاً متحركاً في مقام الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار واحد في مجتمع يسير على خطة واحدة ونهج واحد.
ثم أي شيء من هذا ليس في متناولنا؟. كله في متناولنا، البُعد في أعماق أنفسنا نحن، المستحيل هو في أنفسنا نحن، متى ما غيرناها بلفتةٍ صادقة إلى الله، بالتجاء صادقٍ إلى الله، بثقة قوية بالله، وثقة بكتابه، ونتحرك في إطار الثقلين: الكتاب والعترة، فسيصبح كل شيء بمتناولنا وسنمشي على نهج واحد وسنرى كيف تكون آثاره طيبة، وكيف تكون ثماره طيبة، وآثاره بنّاءة.
من يقول [ماذا نعمل؟]، ليبرر لنفسه القعود وكأنه لا قيمة لما يقال ولما يدعى إليه، وكأنه يُدعَى إلى المستحيل، يُدعى إلى ما ليس لـه وسيلة في واقع الحياة، ليعرف أنه إنما هو الذي يجهل، إنما هو الذي يتهرب ويبحث عن مبررات لنفسه، ميادين العمل مفتوحة، تتسع لأن تشمل كل طاقاتك، طاقاتك المعنوية وطاقاتك المادية، لكن حاول أن تغير من نفسك حتى تصبح إنساناً فاعلاً قادراً على تغيير نفسية المجتمع بأكمله نحو الأفضل، نحو الأصلح، نحو العزة، نحو الشرف، نحو الاهتداء بهدي الله، نحو طريق الجنة طريق رضوان الله سبحانه وتعالى.
آيات الله التي فيها هداية للناس أليست الدعوة إليها من الدعوة إلى الخير؟. أليست الدعوة إليها من الأمر بالمعروف؟. فأولئك الذين يتحركون في أوساط الناس يدعون الناس -ويقدمون أنفسهم كناصحين مشفقين على هذا أو ذك- إلى ما يخالف هذه الآيات، إلى ما يخالف هذه الدعوة التي دعانا الله إليها أليس عملهم من المنكر؟ أليس عمله منكرا؟
إذا كانت هذه آيـات ووثقنا بها بأنها آيات أتتنا ممن هو أرحم الراحمين، أتتنا ممن يعلم السر في السماوات والأرض، أتتنا ممن يعلم الغيب والشهادة ويقول بأنها هداية لنا لعلكم تهتدون، ثم ينطلق أحد من الناس ليدعونا إلى ما يُثَبِّطنا عن العمل بها، فعندما يبدو مشفقاً يبدوا وكأنه ناصح لا ينبغي إطلاقاً أن نلتفت إليه، سواء أكان مشفقاً في واقع الأمر وناصحاً أم لا، نقول: أنت لا تفهم. شكراً لك على نصيحتك، وشكراً لك على إشفاقك لكن إني أرى أن الله سبحانه وتعالى هو أنصح لي منك، وأرحم بي منك، وأشفق عليّ منك وأهدى لي منك، أليس بالإمكان أن نقول هذا لأي شخص؟.
أما إذا كان شخصاً آخر ممن يتحرك في التخريب، في تثبيط الأمة عن الدعوة إلى ما دعاها الله إليه فبالأولى أن نعرض عنه، بل أن نظهر في وعينا بالشكل الذي يحطم أعماق مشاعره حتى يعلم أنه من المستحيل أن يؤثر علينا، كما قلنا لكم سابقاً عن نبي الله موسى(عليه السلام) عندما قال:{ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ}(القصص: من الآية17) أنه رسخ في نفسه نوعاً من المشاعر الواعية التي تجعل الطرف الآخر من المستحيل أن يقدم لموسى (عليه السلام) كلمة يتأثر بها، وما أعظم أن تصل إلى هذا المستوى بوعيك أن يراك الآخر صخرة أمامه لا يمكن أن يؤثر فيك، وأن أي كلمة تنطلق من فمه نحوك ستتحول إلى شظايا، تتحول إلى فُتَات، إلى بخار لا تؤثر فيك بأي أثر.
عادةً من يتجه نحوك ليقدم هذه الكلمة أو هذه ويصبغها بصبغة أنه مشفق عليك وناصح لك إنما انطلق لأن لديه أمل أن يؤثر عليك، فنحن بحاجة إلى أن نظهر في وعينا في سلوكنا في أعمالنا في جدنا في اهتمامنا إلى درجة تحطم معنويات المخربين من المنافقين والمرجفين والذين في قلوبهم مرض، فييئسون فيضْمَحِلُّون ويتضاءلون أمام ما يلمسونه من كل شخص منا من جِدِّه واهتمامه ووعيه، فيرون الناس كتلاً من الصلب تتضاءل نفسياتهم وتضمحل ويتلاشون شيئاً فشيئاً حتى يصبحوا في المجتمع لا قيمة لهم، وحتى يصل إلى درجة أن لا يعرف ماذا يقول وبماذا يتفوه معي أو معك، تضطرب المسألة لديه، يتلَجْلَج الباطل في فمه، فلا يعرف ماذا يقول وماذا يعمل.
إذا وصلت الأمة إلى وعي من هذا النوع فلو اتجهت عشرات المحطات والقنوات الفضائية ومحطات الإذاعة نحو مجتمع من هذا النوع كل ذبذباتها ستنطلق إلى الجو ولن تصل إلى أرض نفسيتك لن تؤثر فيك. كما وصل إليه الإيرانيون في أيام [الإمام الخميني] كانوا على هذا النحو حملوا وعياً رهيباً وعياً عالياً.
لكن المجتمع الذي يبدوا أفراده حتى المتدينون فيه وطلاب العلم وحملة العلم يبدون وكأنهم أغبياء مساكين لا يفهمون شيئاً ولا يعرفون شيئاً فسيتحرك هذا بنشاط، وهذا المنافق بنشاط، وهذا الذي في قلبه مرض بنشاط، وهذا المرجِف بنشاط؛ لأن الساحة تدفعهم نحو هذا، هم يأملون أن يغيروا يأملون أن يؤثروا، يرون الناس يتحركون أمامهم وهم يمكن أن يكونوا ضحية كلمة واحدة فينشطون.
وهكذا عندما كان المجتمع في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) فيه كثير من هذه النوعية أصبح للمنافقين فاعلية كبيرة جداً{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}(التوبة: من الآية47) متى ما أصبح المجتمع ليس فيه سماع للمنافقين، ليس فيه سماع للمرجفين ؛لأن من تقدم إليّ بثوب ناصح أو مشفق مهما كان -حتى وإن كان ناصحاً في واقع الأمر- فلا يمكن -إذا كنت عارفاً بالله- أن اعتقد أنه أنصح لي من الله أو أن أرى فيه أنه أنصح لي من الله وأرحم بي من الله، أليست هذه وحدها تكفي؟.
عندما تقول لي: [اترك ليس لك دخل، ستكلف على نفسك]. -العبارة المعروفة- أقول: لكن الله هو نفسه هو الذي دعاني إلى أن أتحرك، فإن كان أرحم الراحمين هو الذي دعاني إلى أن أتحرك فإن الله يعلم أن الحركة هي خير لي من القعود، أن العمل هو خير لي من الجمود، أن الحركة هي نفسها تجسيد لرحمة الله بي، أن العمل بما أرشدني إليه هو نفسه الذي سيحقق لي الرحمة في الدنيا والآخرة، الله هو أنصح لي منك، هو أرحم بي منك، هو أهدى لي منك. تكفينا هذه، والله إنها تكفينا.
ولهذا نحن يجب أن نعمل فعلاً على أن نعرف كيف نكون معتصمين بالله بوعي، {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(آل عمران: من الآية101) .
هؤلاء الذين يتحركون بعد أن يصبحوا بشكل أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أليست أعمالهم تبدو أعمال صراع مع الآخرين؟. قد تصل إلى درجة صراع مع الآخرين مع من يصدر منهم المنكر، مع من نريد أن يمشوا ويأمروا بالمعروف، مع من نشجعهم على الخير، ونحركهم إلى أن يكونوا فاعلين للخير وعاملين في إطار الخير. هل هذه خسارة أم أنها هي الفلاح؟. هي الفلاح، هي النجاح، هي الفوز وأولئك هم المفلحون هكذا يقول الله سبحانه في آخر هذه الآية:{وأولئك] [وأولئك هم]، هذه العبارات التي تُشَخِّص وتُخصص من يتحركون على هذا النحو: أنهم هم وحدهم المفلحون، لا أولئك الآخرون الذين يرسمون لأنفسهم طرقاً أخرى، يرون أن الحياة ستستقيم وأنهم سيدخلون الجنة بعيدين عن القيام بأعمال من هذا النوع، هم الخاسرون، وليسوا مفلحين.
عندما يقول: وأولئك إشارة إلى من؟. إلى من يعملون على أن يكونوا بشكل أمة مؤهلة للدعوة للخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على أرقى وسائله وفي أرقى نُظَمِه، من منطلق واحد، وتوجيهاتٍ واحدة، وخطة واحدة، هؤلاء هم المفلحون{وأولئك هم المفلحون} يقول علماء البيان بأن هذه هي من العبارات التي تفيد الاختصاص، بمعنى هم وحدهم، لا غيرهم المفلحون، بكل هذه العبارات الثلاث: {أولئك} اسم إشارة تفيد الاختصاص في الإشارة إلى شيء، والإشارة تفيد الاختصاص. {هم} الضمير نفسه يفيد الاختصاص. {المفلحون} اسمية طَرفَي الجملة، الطرف الأول [أولئك] والطرف الثاني [المفلحون]،[المفلحون]بـ[ألـ]، بكل وسائل التخصيص والتشخيص للطرف المفلح وحده هوجاء في هذه الآية {وأولئك، هم، ألـ، مفلحون} ماذا يعني هذا؟. أنهم وحدهم المفلحون لا غيرهم، إذا كنت أنت المفلح وحدك لا غيرك فغيرك الخاسر.
لو كان بالإمكان أن نتصور أن طرفاً آخر أيضاً سيُعد مفلح لكنا مكذبين بهذه الآية وأولئك هم المفلحون أولئك هم وحدهم المفلحون في الدنيا وفي الآخرة.
هذه الآية مما تدعونا إلى أن ننظر لأنفسنا من جديد هل نحن ممن يمكن أن يكونوا هم المفلحون أم لا؟. إن رضينا لأنفسنا أن نبقى على ما نحن عليه، وتمشي علينا هذه الوضعيات وهذه الأحداث السيئة فلا نتحرك لديننا، ولا نتحرك للحفاظ على سلامة ديننا في أنفسنا على أن نبقى مسلمين، لا نتحرك في أن نكون أمة واحدة تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فلسنا مفلحين، فإذا كنا غير مفلحين لا في الدنيا ولا في الآخرة أليست هذه قضية خطيرة علينا جداً؟.
إذا كنا نرى هذه الآية تتحدث عن أناس هناك لا ندري منهم، مفلحون، ونحن أيضاً هل نحن مفلحون؟. فهذا من التكذيب بآيات الله، هذا من التكذيب بآيات الله، وكأن الله يحكي لي عن أناس هناك مجموعون نراهم، نشاهدهم -سواء في ذهنيتنا أو على شاشة التلفزيون- يتحركون يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون وحدهم، ونحن ألسنا مفلحين؟ .لا. الآية جاءت بالتشخيص، بالتحديد، بالاختصاص {وأولئك هم} وحدهم هم وحدهم {المفلحون} لا غيرهم.
هل نرضى لأنفسنا أن نسير في هذه الحياة على خط الخسران، أن نكون خاسرين، ونحن نتعلم أو نُعلم وأنت تقول: أنني أنطلق في عبادة الله وأنا أُعلم، أني كالمجاهد في سبيل الله وأنا أعلم، وأنك وأنت طالب علم تسلك طريقاً إلى الجنة، وأنك وأنت طالب علم تفرش الملائكة أجنحتها لك رضاً بما تصنع، إذا كنت تتجه نحو هذا الاتجاه، وتبني هذا البناء ففعلاً سيكون تعليمك جهاداً في سبيل الله، وتكون وأنت طالب علم ممن تفرش الملائكة أجنحتها لك إذا كنت ممن يتحرك على أن تكون ضمن أمة وتؤهل أمة وتبني أمة تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ففعلاً ستكون مفلح، وإلا فلا يمكن أن تُعدّ مجاهد وأنت في طريق الخسران، ولا أن تُعدّ سالكاً لطريق الجنة وأنت في طريق الخسران، ولا أن تفرش الملائكة أجنحتها لك وهي تعلم أنك لا تسير على هذا الطريق، طريق الفلاح، فكل ما تقوله أنت لنفسك إنما هو خيال ووَهمٌ أنك مفلح وأنك مجاهد وأن الملائكة تفرش أجنحتها لك، وأن من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة، وتَعدّ نفسك ضمن هؤلاء في حال قراءتك وأنت تقرأ ما يخلخل صفوف الأمة، وأنت تقرأ ما يجعل كل فرد يطلع لوحده أمّة واحدة، شخصاً واحداً، وأنت تقرأ وتُعمِّم ما يفكك الأمة فيجعلها أمة لا تتبع أحداً ولا تلتزم لأحد، وكل هذا من منطلق الدين، وكل فردٍ فيها يمشي على ما أدى إليه نظره، و على ما رجحه هو، فلا أحد يتمسك بهذا ولا يلتزم بهذا ولا يتبع هذا، ولا أحد يمشي وراء أحد، ولا أحد يقف مع أحد، وكل شخص يرى أنه لا يَلْزَمه أن يمشي مع هذا، ولا يَلْزَمه أن يسير وراء هذا.
من الذي ستفرش أجنحتها لهم عندما يكونون على هذا النحو؟. هي الشياطين ؛لأنها هي التي سترضى بما تصنع وليس الملائكة، الملائكة سترضى منك إذا كنت تسير على هذا الطرق، طريق {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (آل عمران: من الآية103) طريق {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (آل عمران:104)الملائكة هم خلق من خلق الله على مستوى عالٍ من الوعي يفهمون كل شيء، يفهمون المنهج الذي تدرسه، يفهمون الخطبة التي تقدمها للناس في المسجد، يفهمون البحث الذي تكتبه، يفهمون الحركة التي تتحركها، يفهمون الكلام الذي تنطق به باسم الدين أنه إما أن يسير بالأمة إلى هذا الطريق فستفرش أجنحتها لك وإلا فستبتعد عنك وستأتي الشياطين لتفرش رقابها وليس أجنحتها لك وتضع أعناقها تحت قدميك رضاً بما تصنع؛
لأن في الحديث ((أن الملائكة تفرش أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع)) راضية بما يصنع ؛لأنه يمشي على طريق الفلاح، يمشي على طريق الله التي تبني ولا تهدم، وتوحد وتجمع ولا تفرق. والشياطين ماذا تريد؟. أليست تريد أن نتفرق؟. فمن يقدم كلمة تفرق الناس داخل المسجد أو فوق المنبر أو في حلقة درس أو داخل مركز أو داخل مدرسة فلا ينتظر الملائكة لتفرش له أجنحتها بل ستفرش له الشياطين أجنحتها، وإن كان يقدم ما يقدم من داخل القرآن وهو يحرف معاني القرآن، وإن كان داخل مسجد وفي يده المصحف، وهو يتحدث عن القرآن بما يصرف الأمة عن واقع القرآن فلا ينتظر ملائكة ستدخل الشياطين إلى داخل المسجد وتضع أعناقها تحت قدميه وتحت أقدام طلبته رضاً بما يصنع ؛لأنه سيصنع جريمة، سيفرق الأمة باسم الدين، ويجعل كل شخص يطلع بمفرده بعيداً عن الآخر باسم الدين [لا يجوز لي أن أقلدك، لا يجوز لي أن أتبعك، لا يجوز لي أن أمشي على ما ترى، لا يجوز لي ..لا يجوز.. لا يجوز. لا يجوز لي إلا أن أطلع وحدي أنا واعتمد على رأيي أنا وعلى ما يؤدي إليه نظري أنا]. ماذا يعني هذا؟. أليس هذا يعني تعميق وترسيخ للفرقة؟، و صبغاً لها بصبغة دينية؟. في الأخير يكون الناتج أن كل هذه الآيات لا قيمة لها أمام هذا الترسيخ الذي يمر على أذهاننا سنة بعد سنة ونحن طلاب علم، وما تزال حلقات العلم قائمة على هذا النحو، ما تزال إلى الآن. فمن يتفرغ ويترك أعماله وشئونه الخاصة ويتفرغ للآخرين يدرسهم لكن على هذا النحو من الأفضل له أن ينطلق إلى أعماله الخاصة، ويترك ما يرى أنه فيه مجاهد في سبيل الله، فليس جهاداً في سبيل الله.
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) الآيات من أولها تتجه نحو وحدة الكلمة، سواء ما كان منها يتحدث عن خطورة القضية التي تواجهنا -وعادة ما يتبادر إلى أذهان الناس وحدة الكلمة ليكون بمستوى المواجهة، وهذا طبيعي يحصل- ثم من بداية توجيه الناس نحو الطريق -التي فيها ما يجعلهم بمستوى مواجهة هذا الخطر بل القضاء وضربه- كلها تتجه نحو وحدة الكلمة تحت الاعتصام بحبل الله جميعاً، كلها في هذا الإطار {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً }(آل عمران: من الآية103)هذه الآية فيها ثلاث عبارات تؤكد على وحدت الكلمة، على وحدة الأنفس، وحدة الصف .
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ }(آل عمران: من الآية104)كذلك تؤكد على الوحدة، ثم يأتي نهي مؤكد بوعيد شديد {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) تنهى عن التفرق، تنهى عن الاختلاف، وتحذر أن نكون مثل أولئك الذين تفرقوا واختلفوا، وهم تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم بينات من قِبَل الله توجههم إلى ما يحول بينهم وبين التفرق والاختلاف، توجههم إلى ما يجعل منهم أمة واحدة لا تتفرق ولا تختلف، لكنهم تفرقوا واختلفوا ؛تبعاً للأهواء أو جهلاً بدين الله، أو بغياً من بعضهم على بعض، أو حسداً من بعضهم لبعض، تفرقوا واختلفوا، ولم يكن هناك تقصير من جانب الله سبحانه وتعالى أنه لم يوجههم إلى ما يجعل منهم أمة واحدة، أنه لم يأتِ من جانب الله ما يحذرهم من خطورة التفرق والاختلاف، ما ينهاهم عن التفرق والاختلاف، كل شيء قد أتى من قِبَل الله على أوضح ما يمكن وأعلى ما يكون. فهو يقول لنا : بأنكم لا تتفرقوا ولا تختلفوا، ينهانا عن التفرق والاختلاف، وعندما ينهانا عن التفرق والاختلاف ؛لأنه يعلم أن في التفرق والاختلاف الضربة الموجعة لنا، الضياع لديننا، الإهانة لأنفسنا، الشقاء في الدنيا والآخرة، شقاء وذلة وخزي في الحياة وفي الآخرة نار جهنم.
عندما ينهانا عن التفرق فلا بد وأنه قد رسم لنا الطريق التي إذا سرنا عليها سنكون متوحدين على أرقى ما يمكن أن نتصور، من توحد الصف، توحد الكلمة، تآلف القلوب، تآلف النفوس، لقد أرشد الله إلى ما يجعلنا بهذا المستوى في كتابه الكريم، فعندما نتفرق ونختلف فنحن تفرقنا واختلفنا على الرغم من وجود آيات الله التي تحول بيننا وبين التفرق لو عملنا بها، أما عندما نتفرق ونختلف ونصبغ فرقتنا واختلافنا بصبغة دينية فإن ذلك يدل على جهل شديد جهل شديد بآيات الله، جهل شديد في مقام معرفة الله، اتهام لله في حكمته، اتهام لله في رحمته، اتهام لله في علمه وهدايته، ونقول: [لم تصلح الأمور إلا بهذا الشكل، وليس لنا إلا هذه الطريق، فواجب على كل واحد منا أن يمشي عليها بمفرده] كما هو منطق من يصبغهم [أصول الفقه] بقواعده، من يصبغهم [علم الكلام] بقواعده، ممن يضع نفسه وقلبه بين أيديهم من بداية عمره فينشأ وهو يرى [أن التفرق والاختلاف هو ما يعني الحرية الفكرية، هو ما يعني كرامة الإنسان، هو ما يعني اتساع المعرفة، ما يؤدي إلى التفرق والاختلاف هو الميزة في هذا الدين]. فتقدم الأشياء معكوسة، وتُسمى بعناوين هي بعيدة عنها، وتُكتب فوقها عناوين هي أبعد ما تكون عنها.
أين الحرية لأمة متفرقة؟. أليس ذلك يؤدي إلى استعباد هذه الأمة؟ ؛لأنا نجد في المقابل أن أولئك الذين ينطلقون نحونا ليستعبدونا ويستذلونا أليسوا هم يتوحدون على أرقى ما يمكن فيه التوحد فيما بينهم في مواجهتنا؟. يتوحدون في مواجهتنا، وينطلقون جيوشاً من مختلف البلدان تحت قيادة واحدة لضابط أمريكي، وتوجيهات واحدة تصدر من تحته، ففي إطار هذه القضية الواحدة يتوحدون فيما بينهم، ونحن نتفرق ونصبغ تفرقنا بأنه هو الحرية الفكرية، ثم نقول في الأخير [اختلاف أمتي رحمة]. تجلّت الرحمة الآن، ألسنا مختلفين؟ هاهي الرحمة لكبارنا والرحمة لأفراد شعوبنا؟؟!. تتحول إلى جنود لأمريكا وإسرائيل هذه هي الرحمة، نصبح تحت رحمة اليهود والنصارى، هل هذه هي الرحمة؟!.
نعم اختلاف أمتي يجعلهم تحت رحمة اليهود والنصارى، هو رحمة يجعلنا تحت رحمتهم، هل يريد لنا رسول الله أن نكون هكذا؟!. لا،الله تعالى لا يريد لنا هذا، الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) لا يريد لنا هذا. بل أمرنا بقتالهم {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} (التوبة:29)، من الذي يعطي الجزية الآن عن يد وظهر وبطن وهم صاغرون؟. المسلمون أم أهل الكتاب؟. نحن نعطيهم بترولنا من الباطن، ونعطيهم عقولنا وقلوبنا في الظاهر، ونقدم أنفسنا بين أيديهم في الظاهر، أموالنا تسير إلى جيوبهم من باطن الأرض وظاهرها، وألسنتنا تخدمهم، وأقدامنا تتحرك في خدمتهم ونحن مع ذلك صاغرون تحت أقدامهم، هل هذه هي الرحمة ؟
وما الذي جعلنا هكذا؟. أن الأمة لم تعتصم بحبل الله جميعاً، ولم تكن أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتكون مفلحة، وأنهم تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم البينات، وأولئك لهم عذاب عظيم.
هذا يدل على خطورة التفرق والاختلاف، وأنه في حد ذاته جريمة، هو في حد ذاته جريمة؛ لأنه توعد عليه بخصوصه بالعذاب العظيم، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) أي متى كنتم مثل أولئك متفرقين ومختلفين من بعدما تأتيكم البينات فماذا؟. فسيكون لكم عذاب عظيم كما كان لهم.ألسنا متفرقين؟ أليست الأمة متفرقة ومختلفة؟، حتى الزيدية أنفسهم في داخلهم متفرقين ومختلفين، فأين نحن نسير، وكيف نحن؟. كمثل من نحن؟. ألسنا كمثل أولئك الذي تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات؟، هل نحن نسير في طريق الجنة ونحن على هذا أم إلى أين نسير؟. طريق النار.
ثم مع هذا لا تهتز فينا شعرة واحدة، ولا يحرك ضمائرنا ولا يقلق بالنا أن واقعنا واقع من يسيرون نحو النار. أليست هذه جهالة؟. أليست هذه هي غفلة شديدة؟. هذه هي جهالة عظيمة نحن نشهد على أنفسنا، ألسنا نشهد على أنفسنا؟. فإذا كنا نشهد على أنفسنا بأننا على النحو الذي هدد الله من كان على مثله بعذاب عظيم، فما الذي يجب علينا؟. ما الذي يجب؟. أليس الواجب علينا هو أن ننطلق لنكون أمة واحدة تدعوا إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ونتوحد لا نتفرق، ولا نختلف، لا نسمح للتفرق أن يتغلغل إلى صفوفنا، حتى ولا على شئون الحياة، فإذا ما حصلت مشكلة نبادر إلى حلها نحن من جهة أنفسنا نحن المتشاجرين.نبادر إلى حل مشاكلنا من الطبيعي أن يحصل تشاجر، هذا يسمى تشاجر حول قضية معينة فلنبادر إلى حلها، إذا لم نحلها فإننا نصبح متفرقين.
نحذر أن نتلقى من قنوات متعددة ثقافاتنا وتوجيهاتنا وخطط أعمالنا ؛لأننا سنختلف ستكون نظرتنا إلى دين الله مختلفة، ستكون نظرتنا إلى مختلف القضايا مختلفة، ستكون نظرتنا إلى هداية الله مختلفة وسنكون مختلفين.
ما الذي يضمن لنا أن نكون أمة تنجوا من هذا التهديد الشديد بالعذاب العظيم؟. أن نعتصم بحبل الله جميعاً وأن لا نتفرق، نعتصم بحبل الله جميعاً، فنجعل من أنفسنا أمة واحدة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وإلا فالقضية أمامنا واضحة -سواء كنا علماء أو متعلمين أو متعبدين أو فلاحين أو غير ذلك- القضية أمامنا واضحة نتائجها هي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وهذا كتاب الله، وهو هو الذي يرسم طريق الجنة والنار ؛لأن الذي نزل الكتاب هو الذي بيده الجنة والنار، ليس هناك إلا إله واحد، هو الذي بيده الجنة والنار، وهو الذي نزل الكتاب على رسوله صلوات الله عليه وعلى آله وهو الذي يستطيع إذا لم نمشِ على هداه أن يوصلنا إلى النار وليس هناك من يخلصنا من عذابه. أم أن النار قضية عادية وليست في نظرنا مشكلة مقلقة؟.
لو يأتي [الدَّجَّال] ويعمل [بركة] كبيرة ويملئها بالفحم والحطب ويوقدها ناراً، ويجمعنا فيقول: لا بد على كل واحد منكم أن يوقِّع على ما في هذه الورقة، وكونوا كلكم أمة واحدة على هذا، ومن يرفض سأضعه في هذه [البركة]. أليس أكثر الناس سيوافقون وسيوقعون؟ ؛ولهذا كانت ميزة عظيمة لأصحاب الأخدود فذكر الله قضيتهم في القرآن الكريم عندما تعرضوا للتعذيب بالنار فتحملوا، فلعن من جَنَوا عليهم تلك الجناية {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} (البروج:7) هكذا يصفهم الله بالمؤمنين{وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (البروج:8)
؛ولهذا نقول أن من يُسمون الآن بالإرهابيين – يُسمى الآن بعض الوهابيين [إرهابيين]، وأنهم مطلوبون لأنهم من [القاعدة] أو أتباع لحركة [طالبان]- نقول :هم إرهابيون فعلاً يوم كانوا يسعون ليفرقوا كلمة المجتمع، يفرقون كلمة الناس ويضللونهم، هذا هو الإرهاب الحقيقي، الذي هو إرهاب للمؤمنين، إرهاب للمسلمين.
لماذا لم تتحركوا لمنعهم؟، لماذا كنتم تشجعونهم؟، لماذا كنتم تفتحون لهم أبواب مؤسسات الدولة؟، لماذا كنتم تفتحون لهم مراكز التربية والتعلم؟، لماذا كنتم تفتحون لهم المساجد؟. يوم كانوا يتحركون في تفريق كلمة الأمة، في التضليل على الأمة، في جعل اليمني هذا يلعن هذا، يطلع هذا الشخص وله ولاءات واعتقادات تخالف ما عليه هذا، يفرقون أبناء الطائفة الواحدة، يفرقون أبناء الزيدية -الطائفة التي هي المحقة، ونأمل أن يكون لها الدور الكبير في نصر الحق- يوم كانوا يتحركون في هذا لم تسموهم إرهابيين وهذا والله هو الإرهاب الشديد، هذا هو الهدم للأمة الذي يُعتبر أشد على الأمة من هدم ذلك البرج في [نيويورك] ـ الذي بدا في أذهاننا وكأنه ضربة قاضية لأمريكا وليس ضربة قاضية لأمريكا ـ لأن تُهدم أسرة هنا وتُفرق أحب إلى أمريكا من أن يُبنى لها أبراج متعددة مثل تلك الأبراج في (نيويورك) أو في [واشنطن].
أنتم تبنون لأمريكا هنا، هنا تهدمون وتفرقون كلمة الأمة وهذا هو البناء للمجتمع الذي يخدم أمريكا ويخدم إسرائيل، أن يصبح مجتمعاً لا يُقدم ولا يؤخر ولا يُحرك ساكناً، مجتمع لا يستطيع أن يحافظ على ما تبقى من إسلامه في نفسه، حتى إذا بدوا في الصورة وكأنهم عملوا شيئاً ضد أمريكا، يتحركون بكل قوتهم ويتابعونهم من هنا وهنا.
هم إرهابيون من قبل، إرهابيون وهم يفرقون كلمتنا، هم إرهابيون لأنهم يؤدون بالأمة إلى أن تصير إلى قعر جهنم ؛لأن الله تهدد في هذه الآية بقوله {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران:105) .
فمن يعمل في أوساط الطائفة الواحدة إلى أن تتفرق وتختلف وداخلها البينات، البينات التي تجمعها على كلمة واحدة، وتجمعها في صف واحد، وتجعلها جديرة بنصر الله وتأييده، البينات التي هي الهدى من الله في معتقداتها في مواقفها، في فقهها، فتتفرق كلمتها، أليس هذا هو الدمار لهذه الأمة في الدنيا وفي الآخرة؟. هذا هو الإرهاب الحقيقي.
فكيف أصبح الحال أن يزعجنا ضرب مبنى من عدة طوابق في [نيويورك] ثم لا يزعجنا نحن –مَن نُسمّي أنفسنا [أولياء أمر] لهذا الشعب أو ذك- لا يزعجنا أن تتهدم الأسر ويتهدم المجتمع أسرة بعد أسرة، وتتفكك عراه، وتتباين النفوس فهذا يُكفّر هذا وهذا يُضلل هذا فنصبح مجتمعاً متفرقاً، كان هذا الذي يجب أن يزعجهم، ومن أجله يقطعون يد أولئك الإرهابيين الذين يفرقون كلمة الأمة، لا أن ينزعجوا عندما يُهدم برج، أليس الله سبحانه وتعالى يريد أن نبني أنفسنا صرحاً ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً))، ألم يمثل الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد؟. فيجب أن يكونوا صرحاً واحداً. فمن يهدم هذا الصرح بكلمة هو أخطر من ذلك الذي يهدم برجاً بطائرة أو بصاروخ.
إن هدم صرح الأمة هو الهدم الحقيقي، هو الذي ينفع أمريكا وإسرائيل، هو الذي ينفع اليهود والنصارى، الذي يضرهم هو بناء هذه الأمة وليس هدم ذلك المبنى في [نيويورك]، الذي يُعد ضربة لأمريكا هو بناء هذه الأمة لتصبح أمة واحدة، أمة واعية، أمة قادرة على أن تقف على قدميها، هذا هو الذي يُعد ضربة لأمريكا وليس ضرب الطوابق، عدت ملايين تبني مثل ذلك البرج وانتهت الإشكالية.
{ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }في { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ }(آل عمران: من الآية106) لأن ما يحصل من مواقف في هذه الدنيا بسبب جهل الناس بواقعهم ووضعيتهم، تظهر مواقف تُعتبر تدنيساً لهذا أو لذاك أو لتلك الطائفة أو تلك الأمة، مواقف وأعمال تدنسها، عار عليها، تسود وجهها فعلاً.
من يعمل على تفريق طائفة مُحِقَّة يمكن أن تجتمع على كلمة واحدة هذا هو يُلطِّخ وجهه بالعار وبالخزي، فيقدم على الله يوم القيامة ووجهه أسود، من يتولَّ اليهود والنصارى، ويقف في خدمتهم يقدم على الله وجهه ملطخ بالخزي والعار سيقدم على الله ووجهه أسود.
من لا يثقون بالله فيتبنون مواقف أخرى هم سيلطخون أنفسهم أيضاً بالعار وبالخزي ؛لأنهم لم يثقوا بربهم بأرحم الراحمين بهم، بالذي يهديهم إلى صراط مستقيم سيلطخون أنفسهم ويلطخون قلوبهم ويلطخون وجوههم بالعار فيقدمون على الله ووجوههم مسودة.
من يسمحون لأنفسهم أن يظلوا متفرقين مختلفين على الرغم من خطورة ما يواجهونه على دينهم وعلى أنفسهم هم يجعلون أنفسهم في موقف خزي وعار أمام الله سبحانه وتعالى فيقدمون على الله ووجوههم مسودّة.
يوم القيامة يوم تتجلى فيه مواقف الناس في هذه الدنيا فمن كان في هذه الدنيا يلطخ نفسه بالعار وبالخزي وبالذل تكون سِمَتُه أن يكون وجهه أسود، ومن كانت مواقفه في هذه الدنيا مواقف صحيحة مواقف مشرفة، مواقف نظيفة يَقدم على الله ووجهه أبيض { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } (آل عمران:106) كفرتم بعد إيمانكم ؛لأنكم رضيتم لأنفسكم ؛لأنكم قصرتم ؛لأنكم فرطتم ؛لأنكم توانيتم فأصبحتم ضحية لأهل الكتاب فردوكم بعد إيمانكم كافرين، وهذا موقف خزي لكم ؛لأن الله حدثنا عن أهل الكتاب في القرآن بأنه ليس فيهم ما يشدنا إليهم، ليس فيهم ما يجعلنا نتأثر بهم، أنهم في خبثهم ومكرهم على النحو الذي يجب أن نكون حريصين على الاعتصام بالله من أجل أن ننجى من كيدهم ومكرهم وخبثهم حتى لا نتحول بعد إيماننا كافرين.
عندما تعاملنا مع هذه القضية ببرودة فأصبحنا نفتح لهم أذهاننا وقلوبنا لهم، أصبحنا نفتح بيوتنا وأسرنا لهم، أصبحنا نؤيدهم، أصبحنا نتحرك في خدمتهم، أليس هذا هو الخزي؟، أليس هذا هو الكفر بعد الإيمان، أن يكون الله قد عمل على إنقاذنا من أول مرة -عندما كنا قد أصبحنا على شفى حفرة من النار فأنقذنا منها-، ثم على يدي من؟. على يدي اليهود والنصارى وبخبثهم ومكرهم نعود من جديد إلى النار.
فإذا لم نتعامل مع القضية بجدِّية كما ينبغي أن نكون في مواجهة خطورتها سنكون فعلاً جديرين بالخزي والعار فنقدم على الله تعالى –ونعوذ بالله أن نكون من هؤلاء- نقدم على الله ووجوهنا مسودة فيقال لنا { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }(آل عمران: من الآية106) ، أي أنه حصل كفر بعد إيمان، وكيف حصل؟. نحن قلنا بالأمس أن اليهودي لا يأتي إليك فيقول لك: أكفر بالقرآن أكفر بمحمد رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله)، ولا يقول لك: تَيَهود تنَصْرَن. بل سيوصلك إلى الكفر من حيث لا تشعر، ومتى سيوصلك إلى الكفر من حيث لا تشعر؟. عندما تكون أنساناً لا يبالي، عندما تكون مجتمعاً لا يبالي، عندما تظل مجتمعاً متفرقاً، عندما لا تهتم بهذه القضية فإنك قد هيأت نفسك لتكون بيئة صالحة توصلك إلى الكفر، توصلك إلى الارتداد بالإيمان فتقدم على الله –كفرد أو كمجتمع- بوجوهٍ مسودّة { أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ }(آل عمران: من الآية106) ؛لأنه حصل هنا كفر بعد إيمان، على يدي من؟. أليس على يدي أهل الكتاب.
وأين هو الوسط الذي قَبِلَ هذا الكفر؟. هو ذلك الوسط الذي لم ينطلق على هدي الله من أول ما قال:{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شقا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وألئك لهم عذاب عظيم}(آل عمران 103ـ105)
المجتمع الذي لا يتحرك على هذا النحو هو المجتمع القابل لأن يرتد بعد إيمانه فيصبحون على أيدي أهل الكتاب كافرين، وإلا فمن؟ هل هو المجتمع الذي ينطلق على هذا النحو هو الذي يمكن أن يرتد بعد إيمانه كافراً؟. لا. الأمة التي تتحرك وتعتصم بحبل الله جميعاً، الأمة التي تتحرك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتدعو إلى الخير، الأمة التي تتحرك جسداً واحداً ولا تسمح للتفرق والاختلاف أن يفرق صفوفها وكلمتها، هل يمكن أن تكون هي التي تكفر؟. لا. هؤلاء قال عنهم {وأولئك هم المفلحون}، الكافرون عند الله يصفهم بأنهم خاسرون. فـ{المفلحون} عند الله كلمة لا يمكن أن تطلق على من كان كافراً أو فاسقاً أو ضالاً في هذه الحياة، أو مقصراً في أمر الله، {المفلحون} تُطلق على المؤمنين في أرقى درجات الإيمان، وعلى المتقين في أرقى درجات التقوى، على السائرين على هدي الله.
إذاً فالمفلحون هم الذين لا يمكن أن يكونوا كافرين بعد إيمانهم، هم الذين من يمكن فعلا أن يضربوا أولئك الذي يعملون على أن تكفر الأمة بعد إيمانها، وليسوا هم الذين سيكونون ضحية لأهل الكتاب فيرتدوا بعد إيمانهم كافرين فتكون وجوههم ملطخة بالعار.
أولئك الذين يتحركون في تثبيط الناس والإرجاف عليهم وتخويفهم فيقولون : [أترك ليس لك دخل في هذا]. الذين كنا نسمعهم من زمان يقولون: [اترك هذا سيقولون عنك أنك إرهابي، ليس لك دخل في هذا] هؤلاء ماذا يعملون بكلامهم هذا؟. أليسوا ممن يهيئ الأمة لأن تكون كافرة بعد إيمانها؟. هم من يثبِّطون الأمة، ويثبّطُون الناس عن أن يسيروا على هدي الله فيصبحون متقين لله حق تُقاته، يصبحون أمة واحدة معتصمة بحبل الله بشكل جماعي، يصبحون أمة تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
هل هذا القرآن هدي لأناس يتحركون أم يقعدون؟. هل هو هداية لأناس يتحركون وينطلقون في ميدان العمل أم لأناس يجمدون؟. الذي يقول لك: [أترك .. أترك] وفي كل فترة يقول لك: [أترك] أليس يدعوك إلى الجمود والتخلي عما هداك الله إليه، وتقعد عن العمل الذي ألزمك الله وأرشدك أن تعمله؟. أليس ممن يعمل على أن يجعل منك شخصاً يمكن أن تكفر بعد إيمانك؟. فتكون ضحية للكافرين، لأهل الكتاب، إنهم من يقدمون على الله ووجوههم ملطخة بالعار، إنهم ممن يخدم اليهود والنصارى، ويخدمون من إذا خَلَوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ، إنهم يخدمون من هم حساد لنا، من هم أعداء لنا، من هم مبغضون لنا، من هم لا يودون أي خير لنا، ما أسود وجوههم!، وما أعظم ما لطخوا به وجوههم من الخزي والعار! فيقدمون على الله ووجوههم مسودة.
إن الآيات توحي بأن من يُقصرون ويفرطون قد يكونون ممن يقدمون على الله ووجوههم مسودة، فكيف إذا كان ممن يعمل ويتحرك، وتنطلق من فَمِه تلك الكلمات المثبطة للناس عن أن يسيروا على هدي الله فيحافظون على إسلامهم وينطلقون في مواجهة أعداءهم، تنطلق منهم الكلمات المرعبة المخوفة المرجفة، ويصبغون أنفسهم بصبغة الناصحين والمشفقين، أليس هؤلاء ممن يقدمون على الله ووجوههم مسودة فيقال لهم : {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ }(آل عمران: من الآية106) ؟ بل كنتم ممن يهيئ الساحة لأن تكفر بعد إيمانها، ممن يساعد على أن يترسخ في الأمة ويسري في الأمة الكفر بعد الإيمان.
التثبيط هو مِعْوَل هدم خطير على الأمة ؛لهذا قال الله يهدد الذين كانوا يسلكون مثل هذا الطريق في أوساط المجتمع في أيام رسول الله (صلوات الله عليه وعلى آله) {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا}(الأحزاب: من الآية61) ملعونين أينما تحركوا، أينما التقيت بهم هم ملعونين، أينما التقيت بهم فاعرف أن الفارق فيما بينك وبينهم مليء بلعنة الله عليهم، لتستشعر هذا أنت أنك ستواجه ملعونين عند الله فلتكن حذراً منهم {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} (الأحزاب:61) جديرين بأن يقتلوا أينما ثقفوا ؛لأن أعمالهم خطيرة، هم جسر الباطل، هم من يُعَبِّدون الطريق للكفر، هم من يعبِّدُون الطريق لأعداء الله لأن يضربوا الأمة، هم من يعملون على أن ترتد الأمة فتصبح كافرةً بعد إيمانها، بل تصبح جنوداً مجندة بكل ما تملك لأعدائها.
ثم كما قلنا سابقاً إذا انطلق معك من منطلق أنه ناصح لك ومشفق عليك ورحيم بك فارجع إلى أرحم الراحمين الذي يرشدك إلى هذا، هو الراحم لك فعلاً، هو الناصح لك، هو المشفق عليك، هو من يهمه أمرك، هو من لا يريد أن تُظلم فهو يرشدك إلى العمل فيما فيه عزتك وكرامتك ورفعتك، فيما فيه نجاتك في الدنيا ونجاتك في الآخرة من عذاب الله، وفوزك برضوان الله وبجنته.
هذه قاعدة يجب أن ننطلق عليها وأن تكون دائماً مترسخة في أذهاننا أنه ليس هناك أحد أرحم بك من الله، فمن انطلق من منطلق النصح والإشفاق عليك والرحمة بك وهو يوجهك إلى خلاف هذا، إلى خلاف كتاب الله إلى خلاف آيات الله التي هي من الرحمن الرحيم فاعرف أنه –سواء كان في واقعه مشفقاً عليك وناصحاً لك أم لا- أنه إنما يغشك من حيث يشعر أو لا يشعر، وأنك إذا ما قبلت ما قدمه إليك باسم نصح وإشفاق عليك ورحمة بك فإنك قد غششت نفسك وظلمت نفسك ؛لأن هنا الرحمة، هنا النصح، هنا مظاهر الإشفاق عليك.
{وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:107) ابيضت وجوههم في مواقفهم في الدنيا، كانوا ملتزمين، كانوا من يهمهم أمر الأمة، من يهمهم أمر الدين، هم من يحملون نفوساً كبيرة تَأْبَى الظلم، تأبى الذل، تأبى الاضطهاد، وتأبى الضَّيمَ، تغضب لله، تغضب للمستضعفين من عباد الله، تحمل العداوة الشديدة لأعداء الله، والغضب العارم على أعداء الله، هم من كانوا ينطلقون في مواقفهم على هدي الله فيقفون المواقف المشرفة مهما كان الحال ومهما كان الأمر، هؤلاء هم من يأتون يوم القيامة ووجوههم بيضاء مشرقة ؛لأنهم بيضوا وجوههم مع الله، مع دينه، مع أمته، مع إخوانهم، مع أمتهم، مع أبناء وطنهم فيقدمون على الله ووجوههم مُبْيَضَّة، هؤلاء الذين هم منهم في رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة، إنهم يتحركون في رحمة الله، يتحركون في ظل الآيات، وعلى هدى آيات الله ربهم الرحمن الرحيم، وفي يوم القيامة سيكونون في مستقر رحمة الله في الجنة يحظون برضوانه، ويحظون بالنعيم، هؤلاء هم من يستحقون كل شرف وكل كرم وكل تقدير، يستحقون المقام العالي عند الله سبحانه وتعالى ؛ولهذا جاءت الآية بالتعبير السريع جداً الذي يعبر عن جدارتهم بالجنة {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (آل عمران:107) ، كأنهم أصبحوا في الجنة، كأنهم صاروا إلى الجنة، وكأنه ليس هناك ما يمكن أن يحول بينهم وبين الجنة ولا لحظة واحدة {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(آل عمران: من الآية107).
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ }(البقرة: من الآية252) {تلك} إشارة إلى هذه الآيات، وكلمة {آيات} تعني أعلام من الهدى، أعلام من البينات، أعلام إلى الحقائق. {تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق} حق لا ريب فيه، حق لا شك فيه، حق لا يتخلف.
{تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:108) كل هذه التأكيدات من عند الله سبحانه وتعالى بشكل رهيب، بشكل يخلق في نفس الإنسان شعوراً بالحياء وبالخجل أمام الله سبحانه وتعالى، تكشف عن رحمته العظيمة بعباده، إنه يرشدنا لأنه لا يريد لنا أن نُظلم.
ثم عندما يرشدنا أن نسير على هذا الطريق، إلى هذه الطريقة، عندما يهدينا إلى هذا النّهج هو يقول لنا: بأنه سيكون معنا أنه سيقف معنا، وعندما يحصل لدينا إيمان بأنه سيقف معنا فلنعلم من هو الذي سيقف معنا، هو من له ما في السماوات وما في الأرض وإليه ترجع الأمور. هو من يمكن أن يهيئ، هو من يمكن أن يخلق المتغيرات، هو من يمكن أن يهيئ الظروف، هو من يمكن أن يُعَبِّدَ الطريق، هو من يهيئ في واقع الحياة المتغيرات التي تجعلكم قادرين على أن تصبحوا -وأنتم تسيرون في هذه الطريق- أن تصبحوا أمة قادرة على مواجهة أعدائكم، على ضرب أعدائكم، على قهرهم؛ ولهذا جاء بعدها {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:109) أي ثقوا بأني عندما أهديكم إلى أن تسيروا على هذا الطريق أني بيدي ما في السماوات وما في الأرض، أستطيع أن أجعل من يؤيدكم من خلقي، ألم يجعل الله الملائكة تؤيد المسلمين في بداية تحركهم مع الرسول (صلوات الله عليه وعلى آله) ؟.{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(الفتح: من الآية7) هو الذي كل من في السماوات والأرض خاضع له يستطيع أن يهيئ يستطيع أن يفتح الفرج، أن يفتح الثغرات في ذلك الجدار الذي تراه أمامك جداراً أصماً، تراه جداراً من الصلب، هو من يستطيع أن يفتح في هذا الجدار أمامك فترى كيف يمكن أن يضرب هذا الجدار، كيف يمكن أن يدمر ذلك الجدار، الذي ترى نفسك مهزوماً أمامه، ترى نفسك ضعيفاً أمامه، تراه من المستحيل أن تتجاوزه، من المستحيل أن تعلوه، من المستحيل أن تهدمه، (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
نحن قلنا أكثر من مرة أن بإمكان الإنسان - إذا تأمل في واقع الحياة - أن يرى ما يهيئه الله أمام عباده، إنه يهيئ الكثير من الفرص ؛لتعلم وتـثق بأنه ليس هناك من يمكنه أن يغلق الأجواء أمامك كاملة، ليس هناك من يمكنه أن يحيطك بسور من الحديد فيقفل عليك و يحاصرك في موقعك، فترى كل شيء مستحيلاً أمامك، إن الله يهيئ، إن الله يسخر، إن الله يخلق المتغيرات، فالأمور بيده له ما في السماوات وما في الأرض. أليس هذا مما يعزز الثقة في نفوس من يسيرون على هديه؟.
وإنه لا يعطي تلك التهيئة ولا يهيئ ذلك إلا لمن هم جديرون بها. ولمن تكون تلك التهيئة، وتلك الإنفراجات تلك الفرص حجة عليهم إذا ما قصروا وفرطوا وتوانوا في استغلالها والتحرك لاستغلالها.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (آل عمران:109) صدق الله العظيم.
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]
دروس من هدي القرآن
سلسلة دروس أل عمران
الدرس الثالث: (ولتكن منكم أمة)
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي
بتاريخ: 11/1/2002
اليمن – صعدة