ذكر النعم قضية هامة، أولاً: أن معنى ذكرها: استحضارها في الذهن، وتقييمها، وتقديرها، ومعرفة من أين جاءت، من الذي أتى بها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، لها أثر كبير فيما يتعلق بمعرفة الله، فيما يتعلق بالإرتباط بالله، بالإنشداد نحو الله سبحانه وتعالى، تعظيم الله، إجلاله، تقديسه، الإذعان لأمره ونهيه، التسليم لحكمه، وهذه القضية الإنسان مفطور عليها، الإنسان متى ما أحد من الناس، قدم شخص آخر إليه شيئاً، تجمَّل فيه في موقف من المواقف أو أعطاه شيئاً، يحصل عنده تقدير له ويحصل عنده اهتمام به، وحب له وأشياء من هذه تحصل، بل قد يصل بك الحال إلى أنك تخدم ضميره ـ كما يقال ـ أعني: تحاول تعمل الشيء الذي تراه أنه يرضاه، وأنه يعجبه، حتى لو لم يطلبه منك ولا أمرك أن تقوم به.
إذا تأمل الإنسان في موضوع نعم الله هي كثيرة جداً وواسعة جداً محيطة بالإنسان من كل جهة، النعم المادية، والنعم المعنوية، النعم التي نعرفها ونعم لا نعرفها {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (النحل: من الآية53) {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} (لقمان: من الآية20) إذا لم يحصل تذكر للنعم سيكون البديل حالة نسيان، ونتيجة للنسيان هذا، عدم اعتبار لهذه النعم، عدم تقدير لها، نسيان لمن أسداها لمن جاءت منه وهو الله سبحانه وتعالى، وتكون نتائجه سيئة: ضلال، كفر بهذه النعم، أخطاء متتابعة، عندما يكون الإنسان ناسياً.
{اذْكُرُوا} كونوا دائمي الذكر، دائمي التذكر؛ ولهذا أمر نبيه موسى في آية من الآيات أن يذكّر بني إسرائيل بأيام الله، ذلك الحدث الهام وهو ماذا؟ إنقاذهم، تحريرهم من ظلم آل فرعون واضطهادهم كيف نجاهم الله سبحانه وتعالى بطريقة عجيبة خارقة: أن يشق لهم البحر فيخرجون ناجين وفي نفس الوقت يهلك آل فرعون مثلما قال هنا: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} (البقرة: من الآية50) هذه وحدها من الأشياء التي لها قيمة عند الإنسان، عندما ترى عدوك الذي استضعفك واضطهدك وظلمك وقهرك واستعبدك سنين فتراه أنت وهو في حالة العذاب في حالة الهلاك في حالة الجزاء على ما ارتكبه معك، أليس هذا مما يشفي صدور الناس؟ مما يعتبر في حد ذاته نعمة؟ ولهذا ترى في آية من الآيات هنا، أنه أهلك آل فرعون {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} يذكِّرهم بأن هذه النعم هي نعم هو، هو أنعم بها عليهم أي: ليست أشياء تلقائية توفرت لهم, أو نتيجة خبرات لديهم, أو شطارة, أو ذكاء, أو أشياء من هذه.
{اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} (البقرة: من الآية40) لو يقيِّمون وضعيتهم هم، لو يقيِّمون أنفسهم لوجدوا أنفسهم بأنه ليس باستطاعتهم أن يوفروا ربما ولا واحدة من تلك النعم، كانوا وهم في مصر مضطهدين معذبين قد يكون لديهم شعور بأنه من المستحيل أن تتغير حالتهم، من المستحيل أن يأتي يوم من الأيام يرون فيه فرعون وهامان وجنودهما وقد أهلكهم الله، فتأتي النجاة لهم بطريقة كما حكاها الله في آيات أخرى في القرآن بأنه تقريباً يعتبرون أنفسهم بأنه من المستحيل، وضعية ليس منها مخرج نهائياً؛ ولهذا قالوا لموسى: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} (الأعراف: من الآية129) تعب من قبل ومن بعد، نريد أن تتركنا هكذا أتركنا هكذا نبقى على ما نحن عليه ليس هناك أمل.
وهذه حالة تحصل عند الناس عندما يكونون مستضعفين في ظل جبروت وطغيان قاهر ومتمكن، دولة مستحكمة متمكنة نافذة قوية، أحياناً قد يحصل عند الناس يأس أنه قد يأتي يوم من الأيام يتخلصون من تلك الوضعية إلى الأفضل وإلى الحرية بعد العبودية.
ذكر النعم باستمرار بأن تنقلها الأجيال إلى بعضها بعض قضية هامة جداً؛ لأن الناس الذين عاصروا وضعية معينة ذاقوا مرارة الألم، والإضطهاد، والإستعباد، والقهر، والذلة، فعاشوا في وضعية أخرى وضعية حرية، استقلال، تمكين في الأرض، هؤلاء يكون الجيل الذي عاصر هذه يكون لها وقعها في نفسه إذا ما هناك استمرار للتذكير بهذه وأن يحكيها المتقدم للمتأخر يحكيها الأب للإبن، يحكيها الجد للحفيد؛ ينشأ جيل رأى نفسه في وضعية جيدة وفي الأخير يتصور أنه ما كان هناك شيء، أعني: ما لديه صورة عن الوضعية السابقة لم يذق مرارة الوضعية السابقة فيكون من السهل أن يتنكّر لما هو فيه من النعمة.
هذه حصلت ربما قد يكون من أمثلتها أمامنا في عصرنا هذا مثلاً إيران، ترى الشباب هناك ـ على حسب ما نسمع ونعرف ـ بأنه معظم الشباب هم لم يعاصروا أحداث ما قبل الثورة أعني: الثورة هذه الآن تاريخها [خمسة وعشرون سنة] أليس هذا جيلاً؟ جيل كامل لم يعاصروا أحداث ما قبل الثورة، أعني: لم يذوقوا مرارة اضطهاد الشاة والأمريكيين والإسرائيليين، لم يعاصروا هم أحداث الثورة، فذاقوا ورأوا المآسي الكبيرة التي ارتكبتها المخابرات الأمريكية والإسرائيلية ومخابرات الشاة؛ حصلت عندهم فكرة أخرى وكانوا قابلين لأن يطرح لهم موضوع آخر: الإنفتاح ومحاولة التعايش مع الآخرين ولا داعي للشدة هذه ومواقف قوية في مواجهة أمريكا وإسرائيل وأشياء من هذه، نحاول ننفتح على العالم ونتعايش سلمياً ونحاول أن لا نبقى في حالة تبدو متوترة هكذا، ونبدو وكأننا معزولون عن دول العالم الأخرى، انفتاح؛ لهذا كان الكثير ممن يصوتون لـ[خاتمي] هم من الشباب، هم من الشباب من الرجال والنساء، كثير من كبار السن أو نقول: الجيل الأول كثير منهم ما يزالون محافظين، الذين يسمونهم [محافظين] هم عاصروا الثورة ورأوا ماذا حصل أثناء الثورة وعرفوا ما كان قبل الثورة من أحداث رهيبة ومن تعامل سيء ومن استعمار من ثلاث جهات: حكم مستبد طاغوتي، واستعمار أمريكي، واستعمار إسرائيلي، وثرواتهم تنهبها أمريكا وإسرائيل، بلدهم هو بلد إسلامي بمثابة قاعدة واسعة للإسرائيليين، بترولهم يذهب إلى إسرائيل.
هؤلاء تجد أن الإشكالية هي: ما هناك تذكير بالنعمة، ما هناك تذكير بالنعمة، كلمة: {اذْكُرُوا} قد تكون متميزة عن [تذكروا] اذكروا أنتم وتتذكَّروا في نفس الوقت فيذْكر هذا الجيل للجيل الآخر النعمة؛ ليبقى دائماً يستشعر مدى وعظم إحسان الله إليه ويكون للحالة التي هو فيها الحالة الجيدة الحالة الحسنة الوضعية المستقيمة يكون لها قيمتها عنده؛ لأنه قد يحصل عند الإنسان حالة ـ التي نتحدث عنها بالأمس ـ يتصور واحد: أن الدنيا هكذا! إذا رأوا أنفسهم في وضعية جيدة يحسبون أنها هكذا من قبل، ما هناك صورة عن الماضي كيف كان، ولا عندهم احتمالات عن المستقبل، أنه قد يتغير وقد يتغير على أيديهم هم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الأنفال: من الآية53).
عندما يكونون في وضع جيد ونعمة لا يحصل تغيير من جهة الله سبحانه وتعالى لهذه النعمة هكذا تصرفات مزاجية يقول: يكفي عشرين سنة، كفاية خمسة وعشرون سنة يقلب المسألة، لا. إذا كانت أمة مستقيمة قد تعيش مئات السنين لن تتغير وضعيتها إلى الأسوأ، فلا يحصل تغيير إلى الأسوأ إلا إذا غيرت هي، أليس هنا يسميها نعمة؟ {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الأنفال: من الآية53) متى ما حصل تغيير هم من جهة أنفسهم غيَّر. هنا التغيير يكون إلى الأسوأ، هذه الآية هي تختص يبدو في التغيير من النعمة إلى النقمة من الأحسن إلى الأسوأ تختلف عن الآية الأخرى التي تشمل الموضوعين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد: من الآية11) هذه تحتمل الأمرين كذا وكذا.
كانت قضية غريبة، استغربناها جداً أنه لماذا؟ ما هو الذي جعل أولئك الناس أن يصلوا إلى الحالة هذه؟ حصل تثقيف آخر، هذا التثقيف الآخر ركز على أطروحة جديدة، يعتبر الوضعية التي هم فيها مع ما يرافقها فعلاً من أن يكونوا منشدّين أو متشددين في موقفهم وحذرين في نفس الوقت من الطرف الآخر: هذه حالة ليس هناك داعي لها، يكفي! لكن هذه لها قيمتها الهامة، أنت في مرحلة أنت تشعر باستقلال، أنت تشعر بأنه يحكمك الإسلام نفسه، أنت تشعر بحريتك، لها قيمة وإن كان الموضوع فيه نوع أو يصاحبه نوع من المعاناة لا تعتبر مشكلة هذه.
أعني: هي وضعية يرتضيها الإنسان إذا كان ممن يقدّر الأشياء أفضل من أن يكون له نعم مادية وهو في ظل ماذا؟ استذلال استعباد قهر خنوع تبعيّة للعدو، ولو عنده الإمكانيات هذه ليست لها قيمة؛ لأنه عندما تنظر إلى نفسك أنت لن تجد لنفسك قيمة بل ربما قد يكون الإنسان الذي هو بهذا الشكل قد يغمض عينيه عن أن يقيَّم نفسه هو؛ لأنه يستحي لو يأتي يرى نفسه وعنده نعم كبيرة مادية وعنده أشياء كثيرة لكن هي تعتبر قيمة من القيم الهامة، قيمة لنفسه، قيمة لدينه، قيمة لحريته، قيمة لمبادئه، وعندما يأتي ينظر إلى نفسه يعتبر نفسه كأنه يستحي، على حسب تصوري، بأنه قد يكون الإنسان الذي هو بهذا الشكل لا يحاول يرجع إلى نفسه؛ لأنه لا يستطيع أن يرى نفسه في وضعية يحس لها بقيمة أبداً، يعتبر نفسه عبداً للأجنبي عندما يرجع إلى نفسه يرى نفسه عبداً للأجنبي، فيغمض عينيه، يحاول أن لا يرى نفسه، يرى ما لديه من أشياء.
هؤلاء عندما لم يحصل ذكر للنعمة التي هم فيها من بعد انتصار الثورة في إيران، لم يحصل ذكر من نفس القائمين على السلطة أنفسهم نفس المثقفين، لم يحصل تذكير بالشكل المتكرر والمستمر؛ كان الجيل الجديد عرضة للإنحراف برؤيته، أن تخلق لديه حالة من التذمر مما يعتبره حالة تأزم نفسي، تشدّد، انغلاق، وعزلة وأشياء من هذه، تهول عنده، وتكبَّر عنده المسألة هذه.
إذاً وجدناهم نتيجة لهذا ما هو الذي حصل؟ حصل شيء غريب جداً، الشعب هذا الذي كانت تخافه أمريكا، تخافه دول الغرب له هيبته في مرحلة، لا يعتبر بالنسبة لما هو عليه الآن شيئاً تقريباً من ناحية قوته المادية والعسكرية وكان له هيبته، كان للخميني ولدولة الخميني ولإيران ثقلها العالمي، كان الأمريكيون يتمنون أن بالإمكان أن يدخلوا في حوار ولو مع مواطنين إيرانيين من هذا النظام الذي يحكم. بعدما وصلوا إلى تصنيع صواريخ، إلى تصنيع دبابات، تصنيع أشياء كثيرة، وفي الأخير وإذا هم في المرحلة التي أمريكا تعتبر فيها ضعيفة أمريكا تعتبر ضعيفة، باعتبارها دولة مسخوط عليها عالمياً، مكروهة، ممقوتة وإذا هم موقفهم يبدو ضعيفاً! من الذي أضعف هؤلاء؟ ألم يكن المفروض هو أن يكونوا بعد عشر سنين أقوى بعد عشرين سنة أقوى بعد خمسة وعشرين سنة أقوى من قبل، وأن تكون هيبتهم أكبر ويكون خشية العدو منهم أكبر؟ تغيّرت النفوس.
إذاً يفهم الإنسان: أن ما هناك قيمة للماديات إذا النفوس ليست مستقيمة، إذا الرؤى ليست صحيحة، إذا القائمين على تثقيف الناس ليس لديهم رؤية صحيحة وقيّمة فتصبح الأشياء الأخرى لا قيمة لها، إذاً نحن نرى أن إيران توصلت إلى صناعة صواريخ وإلى عمل تجارب للصواريخ هذه ونلمس بأن ليس لها هيبة بعد هذه التجارب مثلما كان لها يوم ليس معها ولا صاروخ واحد من هذه النوعية، صواريخ تقليدية من تلك التي تسمى: [أسكود] ونحوها، لا توجد الهيبة الأولى لماذا؟ لأن العدو لا ينظر إلى ما لديك من إمكانيات ينظر إلى وضعيتك إلى الثقافة السائدة عندك, إلى نفسيات الناس, إلى معنويات الناس, إلى رؤاهم ورؤى قاداتهم، إذا رأى أن الوضعية على هذا النحو الذي هو موجود الآن في قطاع كبير منهم تنسف الهيبة من نفسه.
نجد أن أمريكا الآن تشكل ضغوطا هي وإسرائيل يعملون ضغوطاً مستمرة على إيران وبطريقة علنية وبطريقة علنية مكشوفة، تلمس من البعض منهم من بعض قيادات منهم في أهم مواقع فعلاً ضعف في المواقف يحكون بأنه بعدما جاء قرار الوكالة الدولية حول موضوع المفاعلات النووية، هناك تيار منهم يقولون: يجب أن نسلك طريقة كوريا نترك الوكالة هذه نتخلى عن الإتفاقية هذه، ليست قضية مُلزمة، إسرائيل ليست عضواً في الوكالة هذه، نفس إسرائيل ليست عضواً، الإسرائيليين أذكياء لم يدخلوا أعضاء في الوكالة هذه مع أن لهم نفوذاً داخل الوكالة وداخل أمريكا، لم يوقعوا على الوثيقة هذه التي تجعلهم أعضاء في الوكالة هذه وخاضعين لنظامها!. الإيرانيون خنقوا أنفسهم بأن كانوا أعضاء في الوكالة.
نجد هنا فعلاً كانت هذه هي الرؤية الصحيحة أن يكونوا مثل كوريا الشمالية, كوريا تخلت عن المعاهدة الدولية هذه، وتركت الوكالة الدولية نهائياً وطردت المفتشين وأزالت كاميرات المراقبة وهددت أمريكا! الآخرون هناك ضعف في النفوس قالوا: لا، نحاول، نحاول! وإذا قد هناك منطق غريب بدا منطق أن الآخرين الذين هم التيار هذا القوي الذي لا يزال محتفظاً بمعنويات الثورة وقيم الثورة، وعرف كيف يتعامل مع أمريكا من زمان ولا يزال على نفس الروحية يسميهم الآخرون: دعاة حرب، دعاة حرب! أي: كأن هؤلاء ما قد عرفوا السلام وكم تكررت كلمة: سلام وكم بحث العرب عن السلام ولم يحصلوا على السلام [أولئك متشددون، دعاة حرب، متزمتون!] وأشياء من هذه يعتبرونهم؛ لهذا هي قد تكون فعلاً مواقفها بدت ضعيفة مواقف ينطلق منها قادة القاعدة قاعدتهم التي أوصلتهم إلى هذه المواقع هم من؟ هم أعداد كبيرة من جيل لم يُذَكَّر بالنعمة لم يذكر بالوضع السابق ثم كيف تغيرت الوضعية إلى الأفضل.
الدرس الرابع - من دروس رمضان المبارك.
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي/ رضوان الله عليه.
بتاريخ: 4 رمضان 1424هـ
الموافق:28/ 10/2003م
اليمن ـ صعدة