عبد الرحمن حسين احمد الموشكي
-
ميلاد النور وسط الظلام
في مكة، حيث الأصنام تملأ الكعبة، وحيث تُوأد البنات، ويُستضعف الفقراء، ويُستعبد العبيد، وُلد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. كان العالم يومها يغرق في جاهلية شاملة: ظلم في الأرض، انحراف في الدين، وانقسام وتمزق في الناس.
في تلك اللحظة الحرجة أشرق النور، وجاء مولد الرسول ليعلن بداية عهد جديد، عهد قال الله فيه: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2].
هذا الميلاد لم يكن حادثًا عابرًا، بل كان إعلانًا صريحًا للثورة على طغاة قريش وأصنامها، وكان بيانًا إلهيًا بأن ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 1]. وكما كان ميلاده آنذاك نقطة تحوّل، فإن استحضار ذكراه اليوم هو إعلان ثورة مماثلة على طغاة العصر، وأنَّى لهم أن ينتصروا وهم ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ﴾ [التوبة: 69].
-
الرسول في ميدان الصراع: مشروع تحرير لا مجرد ذكرى
لم يأتِ الرسول ليكون واعظًا معزولًا أو عابدًا في محراب، بل جاء قائدًا لمشروع مواجهة، مشروع تحرر للإنسان من كل أشكال الطغيان. في مكة وقف وحيدًا أمام قريش بكل جبروتها، لكنه لم يساوم ولم يتنازل، لأنه يعلم أن ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ﴾ [غافر: 51].
في بدر وقف مع قلة مستضعفة، لكن الله نصره: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ [آل عمران: 123]. وفي أُحد، جُرح وجهه الشريف وسال دمه، لكنه لم يتراجع، لأنه يعلم أن ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]. في فتح مكة، وهو في أوج قوته، لم ينتقم من أعدائه، بل قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"، لأنه يعلم أن النصر من عند الله: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1].
-
مقارنة بواقعنا اليوم: نفس المعركة، نفس الأعداء، نفس الموقف المطلوب
إذا نظرنا إلى واقع أمتنا اليوم، نجد المشهد مشابهًا لما عاشه الرسول في زمانه: قوى الاستكبار العالمي (أمريكا وإسرائيل وحلفاؤهما) تقف في موقع قريش والروم، تمارس الظلم، تحاصر الشعوب، وتنهب ثرواتها، وتقتل الأبرياء في غزة واليمن وسوريا والعراق، وكأنهم يصدق فيهم قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة: 275].
بعض الأنظمة العربية المتواطئة تتماهى مع العدو، كما تواطأ المنافقون في المدينة مع أعداء الرسول، أولئك الذين وصفهم القرآن: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14].
فلسطين تُذبح أمام أعيننا، كما كان المستضعفون في مكة يُعذَّبون أمام أنظار الناس، وصمودها هو تجسيد حي لقول الله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].
وهنا يظهر معنى الاحتفال بالرسول: أن لا نكون مثل من أعرضوا عنه في زمنه، ولا مثل المنافقين الذين خذلوه، بل أن نكون من "الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه"، وأن نعلنها صريحة واضحة: الله أكبر، الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام. هذه هي لغة الولاء والبراء التي علمنا إياها القرآن: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22].
معنى الاحتفال الحقيقي: من الشعار إلى ميدان المقاومة
الاحتفال ليس زينة وأناشيد فقط، بل هو ولاءٌ عملي للرسول في واقعنا: أن نحمل مشروعه كما حمله، أن نقف في مواجهة أعداء الأمة كما وقف، أن نتمسك بالقرآن كما تمسك، وأن نكون رحماء بالمستضعفين كما كان.
هو أن نكون مع المقاومة في غزة والعراق واليمن ولبنان، لأنهم يحملون راية ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]. هو أن نقف ضد كل من يتطبع مع العدو، لأن الله يقول: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ [هود: 113].
فكما كان ميلاده فجرًا جديدًا للبشرية، فإن الاحتفال به اليوم يجب أن يكون فجرًا جديدًا لأمتنا، يوقظها من غفلتها، ويجمعها على كلمة سواء، ويعيد إليها روح العزة والكرامة، روح قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [المنافقون: 8].
-
خاتمة: من التاريخ إلى الثورة
إن الاحتفال برسول الله هو احتفال بالقرآن، بالرحمة، بالحرية، بالعدل. هو دعوة لنا أن نقف في وجه قوى الظلم في عصرنا كما وقف هو في عصره، وأن نكون أوفياء له في ميدان العمل لا في ميدان الشعارات فقط.
الرسول ليس ذكرى في كتاب التاريخ، بل هو حاضر في وعينا، قائد لمسيرتنا، ومنارة لطريقنا. ومن يصدق في الاحتفال به، فهو من الذين قال الله عنهم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: 157].
فليكن شعارنا في هذه الذكرى:
الله أكبر،
الموت لأمريكا،
الموت لإسرائيل،
اللعنة على اليهود،
النصر للإسلام. هذه هي كلمة الحق التي تقابلها كلمة الله العليا: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء: 18].